د. فيصل القاسم
إذا أردت أن تفهم المصطلحات «القومجية» التي يضحكون بها على الشعوب العربية منذ عقود، ولا يخجلون من ترديدها حتى وهم يذبحون بعضهم بعضاً، لا بد أن تعكسها، فتحصل على المعنى الحقيقي لها، فـ»التضامن العربي» مثلاً ليس سوى «تطاحن» أو «تباغض» أو «تخاصم» أو «تصادم» أو «تآمر» عربي في وضح النهار، ولا ننسى كيف تآمر العرب على بعضهم البعض بالأمس البعيد والقريب، وفعلوا الأفاعيل، وتحولوا إلى خناجر مسمومة في ظهور بعضهم البعض، وكيف تحالفوا مع الغريب ضد القريب، ولم يرمش لهم جفن، ثم يحدثونك عن التضامن العربي، مع العلم أنهم لم يتعاونوا في أغلب الأحيان إلا على الإثم والعدوان. أما ما يسمى «الصف العربي» فهو اليوم ذلك الطابور الطويل للحصول على رغيف خبز أو كيلو سميد أو قنينة زيت في بلاد أعادت الشعوب إلى الدرك الأول من الحضارة، وجعلتها تحلم فقط بما يسد رمقها. وحدث ولا حرج عن «الحلم العربي» الوحدوي الذي نادى بتوحيد العرب قبل ربع قرن عبر مجموعة من مطربات ومطربين يمثلون معظم البلدان العربية، فإذ بالعرب اليوم يزدادون تشرذماً وتفرقاً بعد تلك الأنشودة، لا بل إن الأنظمة التي رفعت شعارات الوحدة العربية كسوريا والعراق وليبيا واليمن والسودان لم تستطع أن تحافظ على وحدتها الوطنية، فتشظت إلى ملل ونحل وطوائف متناحرة، وتحولت إلى حارات وإقطاعيات متصارعة، وتفرقت شعوبها في أصقاع الأرض، وقضى شبابها في غياهب البحار والمحيطات هرباً من الجحيم العربي، تماماً كما توقع نزار قباني قبل عقود وعقود حينما قال: «مواطنون دونما وطن، مطاردون كالعصافير على خرائط الزمن، مسافرون دون أوراق، وموتى دونما كفن. نحن بغايا العصر، كل حاكم يبيعنا ويقبض الثمن، نحن جواري القصر، يرسلوننا من حجرة لحجرة من قبضة لقبضة من مالك لمالك ومن وثن إلى وثن، نركض كالكلاب كل ليلة من عدن لطنجة، ومن عدن إلى طنجة نبحث عن قبيلة تقبلنا، نبحث عن ستارة تسترنا، وعن سكن وحولنا أولادنا احدودبت ظهورهم وشاخوا وهم يفتشون في المعاجم القديمة، عن جنة نظيرة عن كذبة كبيرة.. كبيرة تدعى الوطن».
لطالما رددنا عبارة «بلاد العرب أوطاني» لكنها كانت مجرد شطر من الشعر الرومانسي، فمعظم البلاد المسماة عربية مغلقة في وجه العرب، وعندما تشردت الشعوب بالملايين، فلم تجد أمامها إلا تركيا وأوروبا. أما لبنان الذي استقبل لاجئين سوريين، فانظروا ماذا يفعل بهم اليوم. هل نلوم إذاً من عكس البيت الشهير وأنشد قائلاً:
«بلاد الرعب أوطاني ـ من القاصي إلى الداني
ومن خوف إلى خطر ـ ومن منفى إلى الثاني
بلاد الحرب أوطاني ـ تدمّر كل بنيان
توفى أمن في وطني ـ وصار الموت مجاني
بلاد الحزن أوطاني ـ بأشكال وألوان
فمن ألم إلى قهر ـ إلى بؤس وحرمان
بلاد الصبر أوطاني ـ وحال الناس أبكاني
فكم نزحوا وكم لجأوا ـ وتاهوا دون عنوان
بلاد القهر أوطاني ـ وموت دون أكفان
تمادى الحزن في قلبي ـ وغطّى الدمع أجفان
بلاد الرّعب أوطاني ـ من البحرِ لســــودان
ومن دجلة إلى طنجة ـ ومن صعـــدة للبنــان»
وقد ظننا أن تلك المصطلحات (العربجية) القميئة المقززة التي بان عوارها منذ زمن طويل قد اندثرت، أو بات يشعر مستخدموها ببعض الخجل بعد أن صارت مثاراً للسخرية والتهكم، لكن الأنظمة العربية لا تخجل مطلقاً، فها هي اليوم وقد عادت إلينا بمصطلح كوميدي ظننا أنه قد اختفى من التداول، وهو مصطلح «الحضن العربي» والغريب هذه المرة أن الذين يستخدمون هذا المصطلح اليوم كانوا يسخرون من مستخدميه في الماضي، ولا ندري لماذا عادوا إلى تفعيله إعلامياً وهم يتحدثون اليوم عن إعادة تأهيل النظام السوري وإرجاعه إلى الجامعة العربية. ربما أرادوا بتلك المفردات السقيمة التقرب من النظام الذي كان يستخدم هذا المصطلح الكوميدي (عمال على بطال) في صدر جرائده ونشرات أخباره المسموعة والمرئية للضحك على الذقون. فقد بات الشارع العربي يعرف جيداً أن هذا المصطلح لم يأت يوماً بخير للشعوب العربية، وأن ما يسمى «الحضن العربي» كان دائماً وكراً للتآمر على كل القضايا العربية، وفيه حيكت المؤامرات والمكايد القذرة ضد العديد من البلدان والشعوب العربية.
ولا أستبعد أنهم كانوا يستخدمون المصطلح بنية عاطلة كإيحاء قذر، لأن كل من جلس في ذلك الحضن اللعين لم ينل سوى العار والشنار، كي لا نقول كلاماً آخر. كم ضحكنا عندما سمعنا ذلك البرلماني العربي الغاطس حتى أذنيه في «الحضن الإيراني» وهو يدعو إلى إعادة النظام السوري إلى الحضن العربي، مع أن الأخير أيضاً مستمتع جداً في الحضن الفارسي ولن يرضى بسواه بديلاً، لأنه حماه بينما الحضن العربي كواه، ولا يمكن أن ننسى كيف وقفت دمشق «العروبية» مع إيران ضد الشقيق العراقي في الحرب الإيرانية العراقية.
كيف لا تريدوننا أن نقلق ونشمئز عندما نسمع مصطلح «الحضن العربي» هذه الأيام في اجتماعات الجامعة العربية ونتذكر أن ذلك الحضن المزعوم «احتضن» خطة غزو العراق الأمريكية وباركها، وانظروا أين أصبح العراق بفضل الاحتضان العربي لمشروع الغزو. هل ترك الحضن العربي مشروعاً تدميرياً تخريبياً إلا وتبناه أو شارك به في بلاد عربية عدة من البلاد المنكوبة اليوم كسوريا وليبيا واليمن والسودان ولبنان وتونس؟ قد تقولون لي إنه عبد مأمور، ولا يستطيع أن يرفض الأوامر والإملاءات الأمريكية، وهذا صحيح، لكن سموه أي شيء إلا «حضن» فالحضن عادة رمز الحنان والحنو والعناية والرعاية والأمان، لا رمز التآمر والخيانة والعمالة والبهتان.
أعوذ بالله من الحضن العربي!
المصدر: القدس العربي