العميد الركن أحمد رحال
لم يكن مفاجئاً العرض الذي قدمه بشار الأسد للرئيس بوتين عندما تم شحنه إلى موسكو, وعن استعداده لاستقبال قواعد عسكرية روسية جديدة على الأرض السورية, وأن الوجود الروسي في سوريا (بحسب رغبة الأسد) يجب أن يكون دائماً لا مؤقتاً, ويفترض أن تكون تلك القواعد (كي يكون لها تأثير بالردع أو بالتوازن) مسلحةً بأفضل الأسلحة, سواء عبر امتلاكها صواريخ فرط صوتية أو أية أسلحة أخرى أكثر تقدماً, ولا مفاجأة بالقول إن هذا العرض يأتي برغبة روسية, لكن يبدو أن موسكو أرادته عرضاً سورياً لا طلباً روسياً, وحاجة روسيا للقواعد تتأتى من صعوبات تعاني منها القوات الروسية في أماكن تواجدها في سوريا إن كان في قاعدة حميميم أو في قاعدة جول جمال في طرطوس أو في مهبط سطامو.
لم تكن قاعدة حميميم الجوية الحالية إلا مطاراً صغيراً تهبط فيه بضعة طائرات مدنية, سورية, برحلات داخلية قادمة من دمشق, وإلى جانب المدرج الجوي الصغير يتواجد السرب 618 حوامات بحرية الذي يتبع تنظيمياً للقوى الجوية في الجيش السوري, وعملياتياً للقوى البحرية, كسرب مهمته البحث عن الغواصات ومكافحتها, وتقديم الدعم القتالي للقطعات البحرية بأعمال الاستطلاع والتوجيه الناري, لكن مطار حميميم يعاني جغرافياً من محدودية المساحة والتوسع, بحيث تحده من الشرق سلسلة الجبال الساحلية وهي على مقربة كبيرة منه, وتحده من الغرب سواحل البحر المتوسط, وبالتالي هناك صعوبة بالغة بعمليات التوسعة التي ترغب بها روسيا نظراً لعدم قدرة القاعدة على استقبال العدد المطلوب روسياً من الطائرات.
يضاف لذلك أمر غاية بالأهمية هو عملية التأمين والحماية, فالطائرات في القواعد الجوية تتواجد عادة بحظائر إسمنتية أو أنفاق تحت الأرض لحمايتها من الهجمات الجوية المفاجئة خاصة بهذا الوقت مع ازدياد خطورة وهجمات الطيران المسير "المجهول", لكن قلة المساحة حدَّت من قدرة الروس على القيام بأية أعمال تحصينية تهدف لحماية الطائرات, باستثناء إجراءات بسيطة عبر إنشاء مظلات بيتونية شُيدت على عجل داخل قاعدة حميميم لحماية الطائرات والأعتدة العسكرية الروسية, وحتى قرار غرفة عمليات القاعدة بنقل جزء من الحوامات الروسية إلى مهبط قرية "اسطامو" (على مقربة من حميميم), لم يحل المشكلة الروسية, وترك طائراتهم وعتادهم العسكري مكشوفاً جواً أمام أي هجمات للطائرات المسيرة أو أي قصف جوي صاروخي, وبالتالي كان لا بد من التفكير بقاعدة أخرى إذا ما أرادت موسكو الاستمرار بوجودها الجوي على الأراضي السورية.
ما عانى منه الروس في قاعدة حميميم تكرر في قاعدة جول جمال البحرية في طرطوس, فالرصيف والجيب البحري الذي خُصص للسفن الروسية, وهو رصيف سابق للغواصات في البحرية السورية (تم تنسيق الغواصات السورية وإخراجها من الخدمة وقصها وبيعها حديد خردة لمعمل الحديد في مدينة حماة, ولم يعد الرصيف مستخدماً).
لكن البحرية الروسية عانت من أمرين في وجودها البحري في طرطوس, الأول أن الأعماق داخل ميناء طرطوس غير قادرة على استقبال السفن البحرية الروسية الكبيرة, وبالتالي كانوا بحاجة لأعمال "تكريك" (تعميق الميناء), لأن معظم السفن الحربية الروسية ذات الغاطس الكبير اضطرت للرسو على المخطاف خارج ميناء طرطوس في البحر المفتوح, وهذا الأمر يزيد من الكلفة التشغيلية لتلك السفن نظراً لاضطرارها لتشغيل المولدات الكهربائية, وأيضاً زيادة كلفة الخدمات المقدمة للسفن وهي داخل البحر, عدا عن الإرهاق البدني الذي تعاني منه أطقم السفن من المقاتلين والضباط نتيجة عدم وجود أماكن راحة على البر يمكن اللجوء إليها.
الأمر الثاني الذي عانت منه البحرية الروسية كان بمحدودية المكان على الرصيف البحري داخل ميناء طرطوس الذي يمكن أن يتسع لـ 4_6 سفن على الأكثر, بينما روسيا تحتاج لمكان رباط لما لا يقل عن 12_14 سفينة تتواجد بشكل دائم في البحر المتوسط أمام السواحل السورية, ومحدودية المكان والتوسعة أيضاً لا يمكن التغلب عليها, لأن شمال رصيف الغواصات تتموضع الزوارق الصاروخية السورية ومعها سفن الحراسة المائية وسفن الإنزال إضافة إلى زوارق الدورية (وكلها تتبع للبحرية السورية), ولا يمكن إخلاء أرصفتها, وجنوب الرصيف الروسي هناك أرصفة وروافع ومنشآت ميناء طرطوس التجاري.
ويضاف لما سبق امتلاك روسيا في ميناء طرطوس مهبط حوامة ومشفى ميدانياً يتسع لحوالي 25 شخصاً, وتلك المعضلة أكدها رئيس تحرير مجلة «الدفاع الوطني»، الخبير العسكري الروسي إيغور كوروتشينكو بقوله: بالنسبة إلى طرطوس، هناك حاجة إلى قاعدة بحرية كاملة، وليس مجرد نقطة لوجيستية, يجب تنفيذ أعمال البناء والبنية التحتية اللازمة هناك. ومن المهم للغاية توفير غطاء دفاع جوي لكلتا القاعدتين (حميميم وطرطوس).
أمام هذا الواقع كان لابد للروس من التفكير بمخرج يستطيع أن يؤمن وجودهم وتعداد طائراتهم وحمايتها, وكذلك تأمين سفنهم وأطقمها القتالية, وبحسب بعض المصادر هناك تفكير بإقامة قاعدة جوية روسية في محيط مدينة القامشلي السورية, أو في وسط البلاد حول مدينة تدمر, أما القاعدة البحرية فالأرجح أن تكون على شاطئ مدينة بانياس قرب المصب النفطي أو في منطقة الشريط الساحلي الرملي بين مدينتي اللاذقية وجبلة في منطقة "صنوبر جبلة"
القواعد الروسية في سورية هي حاجة مشتركة روسية_ إيرانية_ سورية, فالروس يريدون التواجد في المياه الدافئة, وإيجاد موطئ قدم لهم خارج أسوار الدرع الصاروخي الذي نصبه حلف شمال الأطلسي "الناتو" وحاصر به روسيا, والتواجد الروسي في المتوسط والتمدد نحو إفريقيا يكسر هذا الطوق ويفتح بوابات موسكو نحو خلق تهديد جديد لحدود الناتو الجنوبية, إضافة إلى تقوية النفوذ الروسي في المنطقة الأكثر أهمية بالعالم وهي منطقة الشرق الأوسط, والانتشار الروسي الجديد يقوى أوراق موسكو في حربها الباردة مع الولايات المتحدة الأمريكية, ومع الوافد الجديد "الصين" الذي أصبح عراب الاتفاق السعودي_ الإيراني مع مئات مليارات الدولارات التي تستثمرها الصين في إيران والخليج العربي.
أيضاً القواعد الروسية حاجة لنظام الأسد, الذي بات على قناعة كاملة أن قواه العسكرية الذاتية لم ولن تتمكن من الحفاظ على السلطة في سوريا في ظل تموضع جيوش 4 دول على الأقل فوق الجغرافية السورية (الجيش الأمريكي والروسي والتركي والإيراني), والوجود الروسي الدائم يمكن أن يشكل عامل توازن للسلطة في سوريا, ونُقل عن بشار الأسد قوله: الوجود العسكري الروسي في سوريا يشكل ضمانة لإقامة "توازن دولي".
إيران التي يُفترض أن تكون ممتعضة من الوجود العسكري الروسي الزائد, كونه يشاطرها بتقاسم الكعكة السورية, إلا أن طهران تُدرك تماماً أن استمرار وجودها في سوريا يرتكز على المظلة السياسية والعسكرية التي تؤمنها موسكو سواء في مجلس الأمن أو عبر الجهد الجوي الروسي, لعلم إيران أنها ممنوعة من نقل طائراتها إلى سوريا وتأمين حماية جوية لعتادها وميليشياتها, وحتى بموضوع منظومات الدفاع الجوي تجد إيران أن هناك صعوبات بالغة بنقلها, وهي تقوم بتهريب بعض عناصر تلك المنظومات إلى سوريا إن كانت من منظومة "باور 373" أو من منظومة "خرداد 15", التي كشفتها إسرائيل وقامت بتدمير بعض بطارياتها وراداراتها في جبل قابيل بالزبداني, وجبل المانع في الكسوة, وتل المسيح وتل القليب في ريف السويداء.
المصدر: أورينت نت