مصطفى إبراهيم المصطفى
في مقال سابق يحمل عنوان "التحرشات الإيرانية بالقواعد الأميركية وعلاقتها بأكاذيب الغرب" وردت وجهة نظر لا بد أنها أثارت استهجان البعض، ووجهة النظر هذه تقول: "فالوضوح القاطع الذي يصل إلى مستوى السذاجة البلهاء في السياسة الخارجية الأميركية وتأثير البيئة الداخلية على هذه السياسة هو مصدر الثقة لإيران وغيرها في تحديهم للمصالح الأميركية". ولعل البعض ممن قرؤوا تلك الكلمات اتهموا كاتب المقال بالسذاجة التي تصل إلى مستوى البلاهة.
مشكلة البعض في منطقتنا العربية أنهم في عالم الثابت الوحيد فيه أن كل شيء متغير؛ تجدهم مصممين على التمسك بمعلومات أكل عليها الزمان وشرب، وهم إن سمعوا ما يخالفها يعتبرونه كذبا أو تضليلا، فعلى سبيل المثال كانت منطقة الشرق الأوسط في يوم من الأيام محط اهتمام القوى العظمى لكنها اليوم لم تعد كذلك، وتراجع أهمية الشرق الأوسط لم يكن مجرد تحليل أو تسريب استخباراتي أو ما شابه ذلك، وإنما جاء على لسان الرئيس الأميركي "باراك أوباما" وعلى رؤوس الأشهاد عندما أعلن أن الولايات المتحدة تخطط للتخفف من التزاماتها في الشرق الأوسط لأنها تريد إعادة توزيع مواردها بشكل يضمن لها حضورا أكبر في بحر الصين، وقد قالها بوضوح قاطع.
لأنهم لا يستطيعون تغيير قناعاتهم بسهولة، وربما لأنهم لا يرغبون بتصديق ذلك؛ استغرقت بعض الدول العربية فترة طويلة حتى اقتنعت أن الإدارة الأميركية تعني ما تقول، وأن ذلك التوجه يعبر عن استراتيجية أميركية جديدة أكثر مما يعبر عن موقف إدارة محددة. لذلك وجدت بعض الدول العربية التي كانت تعول على المظلة الأمنية الأميركية نفسها مضطرة لاجتراح حلول أو معادلات جديدة تقلص هواجسها الأمنية من خلالها. وضمن هذا السياق جاء التقارب المتصاعد مع كل من روسيا والصين، ومؤخرا المصالحة مع إيران. ورغم أن الحراك بدأ كنوع من التذكير بأهمية هذه الدول بالنسبة للولايات المتحدة، إلا أن عدم الاكتراث الأميركي سيوصل هذه الدول – إن لم يكن قد أوصلها بالفعل – إلى تبني نهج يشبه إلى حد بعيد النهج المتبع من قبل الحكومة التركية.
وضمن السياق ذاته جاءت عملية التطبيع مع النظام السوري (الحديث هنا عن بعض الدول العربية لأن بعضها الآخر كان سباقا إلى التطبيع والدفع نحوه لأسباب مختلفة)، ولأن هذه الدول وافقت على التطبيع نزولا عند رغبة الأصدقاء الجدد (روسيا والصين وإيران) تعتقد أن بإمكانها فرض بعض الشروط، أو أنها تلقت بعض الوعود والضمانات وهي تتحدث بناء على تلك الوعود. في المقابل يحاول النظام السوري أن يقنع نفسه والآخرين أن مسار التطبيع القائم على قدم وساق إنما هو نتيجة كونه أحد الأطراف المهمة في المعادلة الأمنية الجديدة التي تحاول هذه الدول صياغتها. لذلك هو يتحدث عن مجيء الكل صاغرا يخطب وده، بينما يتحدث الآخرون عن تطبيع مشروط.
في مجمل الأحوال، إذا صحت فرضية النظام السوري فسيكون بإمكان الدول المطبعة أن تفرض بعض الشروط التي هي أقرب إلى الاستجداء، من مثل: التوقف عن تكرار عبارة "جاؤوا صاغرين يطلبون الود"، والالتزام بعدم الإساءة للقادة العرب أثناء انعقاد القمم العربية، وإيقاف تجارة الكبتاغون مقابل مساعدات تقدم له تعويضا عن عائدات هذه التجارة، وهكذا... أما إن كانت الدول العربية صادقة فيما تروج له عن تطبيع مشروط فالقضية سوف تكون دخلت منعطفا خطيرا ووضعت النظام السوري في مأزق خطير يصعب تجاوزه.
يعتقد النظام السوري أن بعض التعديلات الطفيفة على سلوكه بعد العام 2000 هي السبب باندلاع الثورة السورية، لذلك فرؤيته للحل هي أن يبسط سيطرته على كامل الجغرافية السورية والعودة بسلوكه إلى ما قبل العام 2000
إن ما يجعل الافتراض الثاني (التطبيع المشروط) أكثر رجحانا هو أن الدول – سواء منها العربية أو الإقليمية – التي كانت حتى الأمس القريب تعارض فكرة التطبيع مع النظام السوري غيرت موقفها بناء على رغبة ووساطة روسية، وهذا يعني أن روسيا قدمت ضمانات ووعود لهذه الدول جعلت موقفها أكثر مرونة، فالروس المتمسكون برأس النظام من أجل تكريس عقيدتهم الفكرية الجديدة المسماة "العقيدة النظامية" والتي تقوم على عدة مرتكزات فكرية، أهمها: أولوية الاستقرار على الديمقراطية، والانحياز الأيديولوجي للقانون الدولي، هم معنيون أيضا بالظهور بمظهر القادر على إحلال السلام على خلاف الدول الغربية التي أسقطت الدولة في كل من ليبيا والعراق على سبيل المثال. لذلك فالمقاربات الروسية للحل في سوريا دائما تتضمن بعض التنازلات التي لا بد منها من قبل النظام السوري.
من جهته، يعتقد النظام السوري أن بعض التعديلات الطفيفة على سلوكه بعد العام 2000 هي السبب باندلاع الثورة السورية، لذلك فرؤيته للحل هي أن يبسط سيطرته على كامل الجغرافية السورية والعودة بسلوكه إلى ما قبل العام 2000 وليس ما قبل العام 2011، ومن هنا يتضح كم هو البون شاسع بين الرؤية الروسية ورؤية النظام السوري للحل. ومن هنا أيضا يمكن تفسير بعض تصرفات النظام السوري كاحتضانه لحفل لجماعة الحوثي في دمشق، واستباق اللقاء الرباعي في موسكو بشروط تعجيزية، والخطاب الإعلامي المستفز بأنها ليست سوى وضع للعصي في العجلات.
سيحاول النظام السوري بكل ما أوتي من قوة ومن مهارة في المراوغة والخداع أن ينحرف بمسار التطبيع نحو الطريق الذي يناسبه. أي التطبيع المجاني أولا، ومن ثم يخلق الله ما لا تعلمون، ولعل مدخله إلى هذا الطريق هو طرحه القديم المتجدد: تأتي الإصلاحات كمحصلة لحوار سوري – سوري بعد أن تبسط الدولة نفوذها على كامل التراب السوري.