صحافة

التحرشات الإيرانية بالقواعد الأميركية وعلاقتها بأكاذيب الغرب

الجمعة, 31 مارس - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

مصطفى إبراهيم المصطفى 


في منطقتنا العربية، وربما في أماكن أخرى، ترسخت في العقول صورة نمطية عن الولايات المتحدة تتلخص في كونها تستطيع أن تفعل ما تريد وهي لا تهزم، بل هي عندما تفشل في مكان ما يفسر الأمر على أنه تكتيك أو استراتيجية مقصودة، فعلى سبيل المثال كان الهدف من احتلال العراق هو تدميره، وكان الهدف من الانسحاب من أفغانستان خلق بؤرة مضطربة في المجال الحيوي لكل من روسيا والصين. تتلخص الصورة باختصار شديد، بأن الساسة الأميركيين، وربما الغربيين بالعموم، يكذبون في كل حركاتهم وسكناتهم ولا أحد يستطيع تفسير قراراتهم سوى جهابذة التحليل السياسي. 

مقولة الغرب يكذب يؤمن بها الجميع، وقد تم تلقينها للجماهير وشاعت بينهم حتى أصبحت من المسلمات رغم أنها مقولة أشبه بالطرفة، فالقول إن الساسة يكذبون ربما تكون عبارة مقبولة إلى حد ما، أما تخصيصها فينطوي على مغالطة وقحة، إذ يوحي هذا التخصيص بطريقة غير مباشرة بأن الآخرين لا يكذبون، ومن أجل أن تكون مقاربة الموضوع أكثر دقة يمكن صياغة الفرضية على الشكل التالي: إن الساسة في الدول الديمقراطية يكذبون كثيرا، بينما هم في الدول الديكتاتورية نادرا ما يكذبون. 

لأستاذ العلوم السياسية الأميركي "جون ميرشايمر" كتاب بعنوان "لماذا يكذب القادة والزعماء" ناقش فيه حقيقة الكذب في السياسة الدولية. يقول في مقدمته: "كنت في بداية الأمر ميالا لأن أتفق معهم (يقصد الناس التي تعتقد أن أكاذيب القادة لا تعد ولا تحصى)، ولكن بعد أن درست المسألة وتعمقت بها،   أصبحت أؤمن أنهم مخطئون". بالطبع، هو اختار العينة لدراسته من البيئة السياسية الغربية، لأن النتيجة ستكون مغايرة تماما عندما تشتمل العينة على ساسة من الدول الديكتاتورية. من هنا يتبادر إلى الذهن سؤال: ماذا لو فكر أحد المشككين بهذه النتيجة أن يتطوع لإجراء بحث مصغر يقتصر على إحصاء الأكاذيب الصادرة عن ساسة في الدول الديمقراطية، وفي المقابل إحصاء تصريحات المقولات الصادقة الصادرة عن ساسة في دول ديكتاتورية! بكل تأكيد سيصل إلى نتيجة مفادها: في الدول الديكتاتورية؛ يقوم الكذب لديها مقام الأوكسجين بالنسبة للكائنات الحية، بينما هو حاجة ثانوية لدى الأنظمة الديمقراطية. 

في مجمل الأحوال ليس الصدق والشفافية، خصوصا على مستوى السياسة الخارجية، صفة حميدة، بل هو نقطة ضعف تنبه إليها الكثير من الباحثين السياسيين، فتأثير المواطن العادي في السياسة الخارجية للدول يعتبر تدخلا في سياسات تفوق مستوى فهمه، لذلك فهو عامل ضعف وإرباك، وبدل أن تجد الحكومات الغربية حلا لهذه المعضلة قامت بتعميقها عندما طبقت معايير الحوكمة المخصصة للبيئة التجارية في المجال السياسي، فحلت الحوكمة مكان السياسة وأصبحت الدولة تبدو وكأنها محض شركة تجارية. وعن هذا تحدثت الدكتورة مشاعل الهاجري في مقدمة ترجمتها لكتاب "نظام التفاهة" بكلام لا يخلو من الدقة والموضوعية بقولها: "رغم موضة الشفافية الشائعة الآن مع شيوع الحوكمة، ينبغي أن نعترف بأن ترك مساحة للتخمين والحدس المعقول هو أمر كثيرا ما يضفي طابعا مرنا (وسحريا، ومباركا) على أي شأن. لا أفج من الوضوح القاطع". 

إذاً، فالوضوح القاطع الذي يصل إلى مستوى السذاجة البلهاء في السياسة الخارجية الأميركية وتأثير البيئة الداخلية على هذه السياسة هو مصدر الثقة لإيران وغيرها في تحديهم للمصالح الأميركية، فجميع الخبراء السياسيين يعلمون جيدا أن الأميركيين بعد المغامرات العسكرية الفاشلة يصابون ب"فوبيا النزاعات المسلحة"، ومن لا يعلم ذلك يستطيع تلمسه في تصريحات الساسة الأميركيين وبرامجهم الانتخابية، بل في تفاعلات الإدارة بشكل عام. فمن أوباما الذي جعل جوهر حملته الانتخابية الانسحاب من العراق وأفغانستان، إلى ترامب الذي تفاخر بإقالته لجون بولتون لأنه يريد أن يورط الولايات المتحدة في حرب مع إيران، إلى "الكونغرس" الأميركي الذي تداعى للحد من سلطات الرئيس في اتخاذ قرار الحرب بعد مقتل قاسم سليماني، إلى مسارعة الرئيس الأميركي الحالي لطمأنة الأميركيين بعد التوتر الأخير بأنهم لا يسعون إلى مواجهة مع إيران. والأمثلة على تلك التصريحات والقرارات التي تجعل السياسة الخارجية الأميركية واضحة ومكشوفة أكثر من أن تحصى. 

الأسوأ من هذا وذاك أن صعود التيار الانعزالي داخل الولايات المتحدة جعل "فوبيا النزاعات المسلحة" أشد عمقا وتأثيرا، فمجرد الدعم لأوكرانيا في حربها مع روسيا يلقى معارضة شديدة من تيار واسع داخل الولايات المتحدة، بل هناك دعوات متصاعدة من هذا التيار لسحب القواعد العسكرية الأميركية من منطقة الشرق الأوسط. كل هذا وغيره جعل النظام الإيراني وصحبه يستطيعون التنبؤ بردود الفعل الأميركية والتصرف بثقة مطلقة، فرغم أن النظام الإيراني يعد من كبار المروجين لمقولة "الغرب يكذب"، إلا أنه في الواقع يتعامل مع تلك المعطيات والتصريحات على أنها حقائق، وهو متأكد أنها حقائق. لذلك، أمام هذا الوضوح القاطع والفج بأن الإدارة الأميركية لن تنزلق إلى مواجهة شاملة مع إيران مهما كان السبب، ترى إيران أن التحرش بالقوات الأميركية في سوريا تنحصر عواقبه في احتمالين: إما تقوية شوكة التيار الداعي إلى سحب القوات الأميركية من سوريا، وهو ما سوف يضع الإدارة الأميركية أمام ضغوط متصاعدة قد تدفعها لسحب هذه القوات. وإما قيام الولايات المتحدة برد محدود، وهو ما سوف يكون تأثيره محدودا على خد اعتاد اللطم. 

في كتاب "الفرصة" أورَدَ "ريتشارد ن. هاس" ما يصلح لأن يكون خاتمة لهذا المقال: "إن الشعب الأميركي مستعد أن يضحي في حروب مكلفة تقتضيها الضرورة، كالحرب العالمية الثانية، وأن يأخذ على عاتقه حروبا اختيارية كالتدخلات التي حدثت في البوسنة وكوسوفو، ما دامت هذه لا تثبت أنها مكلفة، ولكن الحروب المكلفة (على نحو ما أثبتته حرب فيتنام وما أثبتته حرب العراق) فإنها تتطلب تضحية غير محدودة من أجل أهداف غير مؤكدة، وبذلك فإن مثل هذه الحروب الاختيارية المكلفة ببساطة لا يمكن أن تكون مستدامة".  ولعدة اعتبارات يرى عدم ملاءمة الديمقراطية الأميركية لدور إمبريالي. 


المصدر: تلفزيون سوريا

الوسوم :