عمر الشيخ
أصدر الشّاعر السوريّ الرّاحل بندر عبد الحميد، في 1990، كتابه الشعريّ "الضحك والكارثة". هل كان يحاول تسجيل قراءة في المُخيّلة السوريّة لحدثٍ يمكن أن يضرب في حاضرنا اليوم؟... مع الوقائع الجديدة، سيكون للكارثةِ وجهٌ آخر، هو نظام البعث في سورية، كما سيكون للضحك روحٌ لامباليةٍ فوق دمار البيوت وأنقاض الضحايا، دلالة على عُمق الكارثة التاريخيّة التي تعيشها البلاد منذ عقود.
قد يأخذ الضحك في أمكنة أخرى لدى هذا النظام شكل أداة ساخرة من موت الناس، إذ لا تغيب عن الذاكرة صور مجزرة داريّا في أغسطس/ آب 2012، في ريف دمشق، وتضمّنت تغطيتها التلفزيونية مقابلة مذيعة اسمها ميشلين عزار مع امرأة من سكان داريا، كانت تستند إلى رخامة قرب أحد قبور نُبشت قبيل انتهاء المجزرة، ويبدو أنها تلفظ أنفاسها الأخيرة، بينما تسألها المذيعة عن شعورها بعد انتصارات جيش الأسد على "الإرهاب"!
بقي المشهد جزءاً من مأساةِ التشويه التي تساهم فيها آلة إعلام النظام، تشويه الحقائق، طمس الأدلّة التي تدين ذاك الجيش، إنّه قتلٌ موثّق وكلّ الشّهود على الأرض شركاءٌ في الجريمة على نحوٍ ما. وكان هذا الإعلام الذي يزايد على مهاراته في تبرير القتل شريكاً أيضاً لظهور بشار الأسد، أخيراً في حلب، بعد أيامٍ من ضربة الزلزال، كأنه يكتب فصولاً جديدة في الإرهاب الروحيّ الذي يعيشه السوريون من لامبالاة حكوماته، بالاهتمام بحياتهم وخدمتهم.
قرّر الأسد الذهاب إلى مواقع ادّعى إعلامه أنّه زارها للاطّلاع على ما حدث، بيد أنّ الزيارة تكللت بظهوره يبتسم، كأنّه في تدشين موتٍ جديدٍ للسوريين، وما الذي يمكن للتاريخ أن يتذكّره من وقفات لهذه السلطة المتمثلة بذاك الرجل؟ سلوك الأسد الطبيعيّ، حسب شخصيته، يساوي بعنفه الكوارث الطبيعيّة. لا يقيم وجه الطاغية وزناً لفاجعة أرضيّة، لم يكن متأسّفاً أمام آلاف البيوت التي دمّرها الزلزال. هكذا بدت الصورة. كما لم يكن متأسّفاً من مئات من طلعات جيشه الجوية سنوات لطرد المعارضين من مدنهم وتهجير الناس.
انكبت عشرات التقارير والمقالات تبحث في كيفية قراءة تصرّفٍ كهذا أمام الكاميرات والبيوت المدمّرة: الضحك. كان يبتسم في توقيت كارثيّ، علماً أنّ شيئاً لم يتغيّر، منذ ضحكه على الضحايا في أول خطابٍ له بعد بداية الثورة السورية، مارس/ آذار 2011، كان ينزع إلى الهروب من "الإنشاء العاطفيّ"، مدّعياً إدراكه المؤامرة التي يحضّرها "الأعداء من أجل ضرب استقرار سورية"، لكن ذلك لم يكن ينقصُه سوى ضحكته تلك، وتصفيق مجلس الدمى (مجلس الشعب) الذي لا تحرّكه دماء السوريين المتساقطة.
أكثر ما وجده النظام السوريّ في كارثة الزلزال تجميد بعض العقوبات المتعلقة بالحركة المالية للمساعدات الإنسانيّة، والتي تُبرز صورة أخرى من الانتهازيّة السياسيّة لدى حكومة النظام التي لا تعنيها المسائل الإنسانيّة بقدر ما يهمها كسر العزلة الدولية، سياسياً، ولو من بوابة المساعدات الإنسانية، مؤقتاً وعلى حساب السوريين.
ما بين الضحك والانتهازيّة تظهر صورة نظام البعث ماثلة في قطعٍ تركيّبية من صور الضحايا على شاشة تؤرّخ للذاكرة، تدعمها "انتفاضة" دبلوماسيّة غير مسبوقة من دول عربية تحارب أنظمتها أي طموحات لشعوبها الحالمة بربيع إسقاط الطغيان، كان الشعور يتجاوز مفهوم التواطؤ ويضع كلّ من عارض الأسد في خانةٍ تاريخية جديدة بعيداً عن سورية ما بعد الزلزال.
كان عمر رئيس مجلس النواب العراقي محمد الحلبوسي 30 عاماً حين بدأت الثورات العربية أواخر 2010، ربما كان يحلم بلقاء بشار الأسد. وها قد دعاه الأخير ليسمع منه تصريحاً من هذا النوع: "الاتحاد البرلماني العربي لن يدّخر جهداً من أجل عودة الدور المؤثر والفاعل لسورية على الساحة العربية" (...) ثمّ، وهنا مربط الفرس، مناسبة الزيارة لتقديم المساعدات لمتضرّري الزلزال عبر حكومة النظام، حيث قال الحلبوسي إنّ "العراق سيواصل تقديم كلّ المساعدة الممكنة لدعم جهود الحكومة السورية في إغاثة المتضررين من الزلزال". وسوف يشجّع ذلك التنسيق السياسيّ مسؤولين عرباً كان لديهم شبهُ تخوفٍ من الظهور أمام شعوبهم داعمين لتعويم نظام الأسد. هكذا يذهب وزير الخارجية المصري سامح شكري أيضاً ويلتقيه الأسد، وينقل إلى نظيره فيصل المقداد رسالة "التضامن مع سورية بمواجهة تداعيات الزلزال". وبالتزامن، نشرت صفحة فرقة "كورال روح الشرق" المصرية مقطع فيديو على صفحتها في "فيسبوك" تنشد فيه "حماة الديار عليكم سلام" موجّهاً إلى الجيش الذي لم يخدم سوى عائلة الأسد، وكان يحمي طغيان رئيسه، تاركاً سماء سورية تتلوّث بطيران روسيا الحربيّ إلى جانب صواريخ إسرائيل واستهدافها المتكرّر والمستمر المسؤولين الإيرانيين في مربعات الأسد الأمنيّة، في العمق السوريّ الذي يدّعي هؤلاء "الحُماة" أنّهم يهتمون لأمر سكانها.
سبقت ذلك زيارة الأسد حليفته العربية الأبرز، عُمان، وقالت تقارير إعلام النظام إنها "زيارة عمل"، وضمنها كان التصريح الواقعي للأسد "الشكر الأكبر لوقوف عُمان إلى جانب سورية خلال الحرب الإرهابيّة عليها". وهنا عُدنا إلى الخطاب الإعلاميّ إياه، والنتيجة أن كلّ من يعارض بشار "إرهابيّ"، وهذا ضحك قديم علينا.
إذاً، نحن أمام طرق جديدة للضحك على آلام السوريين ونسيان مأساتهم الأساسية، وجود هذه السلطة العسكريّة المدعومة من حلفاء نظام دمشق، روسيا وإيران. ومهما كانت صور التبرّعات التي غطس فيها أبناء بشّار الأسد، والذين يروّجون نشاطهم بالمشاركة الإغاثية التي تسعى إلى تغطية استثمار الأسد، السياسيّ، للزلزال، فإنّها لن تغيّب حقوق مئات آلاف من السوريين خسروا حياتهم وبلدهم لتتمدّد تلك السخرية فوق قضيتنا، وليس ثمّة من يوقِفها.
المصدر: العربي الجديد