ساطع نور الدين
حتى اليوم، لم تنته العاصفة الجيولوجية التي ضربت شرقي البحر المتوسط في السادس من شهر شباط/فبراير الماضي. وهي ليست مجرد هزّات ارتدادية للزلزال العنيف الذي سُجّل فجر ذلك اليوم العاصف، وتجاوز عددها ال16 ألف هزّة. بل صارت ظاهرة استثنائية، تشهد على إرتجاج الارض الممتدة من الاناضول الى سوريا الى لبنان..مرّات عديدة في اليوم الواحد، وعلى فوالق متعددة، قررت ان تتحرك في وقت واحد تقريبا.
ومن دون الحاجة الى علماء وخبراء في الجيولوجيا، ليس لديهم تفسيرات علمية دقيقة وثابتة وواضحة، عاد سكان تلك المنطقة الى اعتماد تقليد قديم لجأت اليه الانسانية منذ القدم، وهو العودة، بعد الزلزال الاول المفاجىء، الى الحياة الطبيعية، مع الاحتفاظ بمشاعر التجاهل والاستخفاف بل وحتى الازدراء لما يعتمل في باطن ذلك الجزء من الكرة الارضية من إضطرابات، ويخرج الى سطحها ، على صورة إرتجاجات قاتلة، وتصدّعات مدمّرة.
مثل هذه المشاعر، ليست ضرورية فقط للصحة النفسية، بل هي أيضا مفيدة للنظر في ما تخلفه العاصفة الجيولوجية الراهنة من خسائر بشرية وأضرار مادية، تجاوزت 52 ألف قتيل في تركيا وستة آلاف قتيل في سوريا، وعدد يقدر بعشرات الالاف من الجرحى، ونحو 30 مليون متضرر مادياً.. وفي ما تتركه أيضاً من آثار اجتماعية (وسياسية) بعيدة المدى على البلدين والشعبين، وما يجاورهما من أشقاء وحلفاء وأعداء. وهي آثار ما زال يصعب تبينها وتقدير عواقبها.
في تركيا، التي كانت ولا تزال المركز الرئيسي للعاصفة، يبدو أن الكارثة الطبيعية المفجعة انحصرت في سياقها الطبيعي، ولم تستخدم في خطاب الغضب الرباني ولا الجدل السياسي: الخسائر البشرية قياسية، وكذلك الاضرار المادية التي يزيد حجمها على 110 مليار دولار أميركي، ويمكن ان تبطىء نموء الاقتصاد التركي بمعدل يتراوح بما بين 2و3 بالمئة. لكنها لن تغير المشهد السياسي او الاجتماعي: قبل الزلازل كان متوقعاً أن يفوز الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في الانتخابات الرئاسية المقررة بعد شهرين، من الدورة الاولى للاقتراع. وهو ما ترجحه مختلف التقديرات والاستطلاعات، التي تعطي حزبه أيضا، العدالة والتنمية، غالبية مريحة نتيجة الانتخابات النيابية.
في سوريا التي منيت بالكثير من الخسائر ونالت القليل من الاهتمام، بدت الهزات الارضية العنيفة وكأنها مجرد صدى للموجات التي كانت تسببها الغارات الجوية والصاروخية لروسيا وإيران وقوات النظام، في ذروة الحرب. ولم يكن عبثاً إعتراف بعض سكان الشمال السوري أنهم ظنوا في البداية ان الزلزال الذي قتل نحو ستة آلاف مواطن وجرح أضعاف هذا العدد وخلّف دماراً هائلاً، هو دوّي بعيد المدى لغارات جديدة. وقد عادت بهم الذاكرة الى تلك الجولات العنيفة من الحرب ، او بالتحديد الى الحملات العسكرية الضارية التي كان النظام وحلفاؤه يطلقونها، التي كانت تخلّف عدداً مماثلا من الضحايا في فترة زمنية قصيرة لا تتعدى اليوم الواحد أحيانا..في إشارة الى عدد من المجازر التي إرتكبت في أرياف دمشق وإدلب وغيرها..بالاسلحة الكيميائية والتقليدية.
ذلك المشهد السوري المؤلم، الذي لا تزال الاستجابة المحلية والعربية والعالمية لضحاياه محدودة جدا، الى حدٍ مشين، إنتج وقائع وهوامش وتفاصيل محيرة، تمحورت حول الشرعية المؤقتة التي اكتسبها النظام أو خسرتها المعارضة. الحديث عن تطبيع او إنفتاح عربي إضافي على النظام، كان بمثابة مبالغة مفرطة من طرفي الصراع السوري. لا العرب تداعوا الى قمة طارئة او الى مؤتمر وزاري عاجل لنجدة سوريا، ولا الزعماء العرب طاروا واحدا تلو الاخر الى دمشق او الى شمال سوريا لاغاثة منكوبي الزلزال. أما المساهمات المالية العربية التي وجهت لاعادة الإعمار في الشمال السوري فهي لا تكفي لبناء قرية او مزرعة .
العاصفة الجيولوجية ما زالت مستمرة، وأسوأ ما فيها هو تحليلات العلماء والخبراء، التي لا تغفر للضحايا، ولا تغيث الناجين، ولا ترحم أحداً من سكان تلك البقعة المنكوبة.
المصدر: المدن