صحافة

ضباع سوريّة على Deathbook

السبت, 4 مارس - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

عمر قدور 


صار من الجائز تسميته بـDeathbook بدل Facebook، فالتسمية المقترحة باتت أنسب لما هو عليه فعلاً موقع التواصل الذي يعجّ بأخبار وفيات السوريين، وهو أيضاً "لمناسبة العديد من الوفيات" الموقعُ المفضّل للمعارك التي سنتحدث عنها، لسهولة استخدامه مع ميزة التعليقات والردود فيه. نوضّح قبل الخوض في سيرة المعارك أن الحديث عن تكاثر وفيات السوريين ليس من باب المبالغة أو التفجّع، وتزايدُ حوادث ما يُسمى "الوفاة الطبيعية" يعود بنسبة كبيرة إلى ما قاسَوْه من إبادة وتهجير، ثم إفقار أنزل نسبة ساحقة منهم تحت خط الفقر. خلال ذلك كله، اشتدت الضغوط النفسية التي يعاني منها الجميع، ومن عواقبها على الصحة، في مختلف أماكن تواجدهم، وهي بالتأكيد أشدّ حيث تنعدم أو تتدنى جداً الرعاية الطبية. 

مع تكاثر الموت، اعتدنا على مجيء الضباع لتنهش في الجثث، لتنجو فقط جثث أولئك البعيدين أصلاً عن النشاط العام بمختلف أشكاله. شهدنا لوقت ما مآخذ علمانيين وسخريتهم من إسلاميين يفتون بجواز أو عدم جواز الترحّم على ميت ما، لكننا سرعان ما سنجد هؤلاء الساخرين يستنكرون الترحم على ميت آخر، لنكتشف أن استنكارهم وسخريتهم غير موجّهين كما ظننا إلى فكرة الترحّم بحدّ ذاتها. أكثر من ذلك، سيفاجئنا البعض من هؤلاء "في وصف ميت ما" بمفردات لم يكن يُظنّ أنها من قاموسهم، مفردات مثل: الفاطس.. النافق...إلخ. 

من السهل طبعاً ملاحظة أن النعوت السابقة تحيل الميت إلى ما دون البشر، وهي إحالة تعني استباحة المقصود بها، سواء كان حياً أو ميتاً، وتزداد قوة الاستباحة في عدم قدرة الجثة على الرد، إذا كان للأحياء دائماً هذه القدرة. قرأنا في العديد من المرات احتجاجات على كتابات تُحتسب على سبيل نقد الميت، من دون أن تحطّ على نحو مطلق من كرامته الإنسانية، فقوبلت من أعداء الميت بالاستهجان لأن كتابات من هذا القبيل ترتكب إثم أَنْسَنة الميت! ولا يخفى أن وراء هذا الاحتجاج مَن يضمر الأوصاف السابقة "نافق.. فاطس.."، ويردعه ذكاؤه ليس إلا عن استخدامها صراحةً. لقد رأينا إثر بعض المعارك الواقعية تمثيلاً وتنكيلاً بجثث الخصم، وما يحدث افتراضياً لا يقلّ عن تلك المشاهد إطلاقاً؛ واحد منها استكمال للآخر. 

ثم لا يندر أن تكشف الضباع عن طيع ذئبي ينهش في الأحياء، إذا ما سوّلت لهم أنفسهم أنسنة الميت، وينكشف مع هذا الطبع نزوع ثأري شديد البأس. أمام هؤلاء، يصبح كل مَن يخالفهم الرأي فيما يخص الميت، ولو في الجزئيات، بمثابة عدو على الدرجة ذاته مما يمثّله ذلك الراحل، فهذا المختلف لم يكن ليقول قولاً مفارقاً لقولهم لو لم يكن مشابهاً للراحل المذموم، ووفاة الأخير بالنسبة لهم تصبح كاشفةً عن الخبايا "الشريرة" للأحياء، لتضيف الوفاة فضلاً جديداً لنفسها. 

هذه الشعبوية لا تأتي فقط من أوساط لطالما عُرفت بها، بل تأتي أيضاً من أوساط تضم مثلاً معتقلين سابقين فيهم العديد ممن كان يتباهى بأنه صادف خارج السجن جلاده الذي أذاقه فنون التعذيب، ومع ذلك تبادل معه التحية، وربما الحديث، بلا أية ضغينة. ولئن كان هذا التسامح "المفرط ربما" مفهوماً فما يصعب فهمه غيابه في خصومات أخرى، وصعوبة الفهم تنطلق من السياسة لا من المشاعر في الحالتين، إذا كانت السياسة تغلِّب ما هو توفيقي وتوافقي على ما هو ثأري. 

لا نتحدث بطبيعة الحال من منطلق ذمّ الاختلاف، وإنما نتحدث عمّا هو ثأري وإباديّ، بحيث أن أصحابه مخيفون حقاً إذا تخيّلناهم للحظة في موقع سلطة فعلية بدل سلطتهم الرمزية على وسائل التواصل، على اختلاف درجاتهم. ولأن الحديث لا ينصرف إلى قلة معزولة فإن أسوأ ما يمكن أن نخلص إليه هو انتشار ذلك العزم الإباديّ بلا أدنى حرج لدى أصحابه، وانعدام الحرج لا يُردّ لمستوى الحساسية الشخصية، إنه يتعزز مدعوماً بوجود أنصار له وبانكفاء أو تجاهل الذي يُتوقع أن يكونوا ضده. 

لا بأس بتمرين ذهني، نتخيّل فيه شخصاً غير سوري يتصفح حسابات السوريين ومعاركهم على وسائل التواصل، ويكون يقظاً "قليلاً فقط" إلى هذه النوازع الضبعيّة والذئبية والإباديّة. يلزمنا الكثير من السذاجة لنظنّ أن هذا المراقب المفترض سيتعاطف مع البكاء والنواح المبعثر هنا أو هناك، أو سينظم قصائد حزن لأن هؤلاء المعارضين فشلوا في إسقاط الأسد. وإذا تخيّلنا المراقبَ سوريّاً من جهة مغايرة، لن يصعب أن نتخيّل خوفه على نفسه من هؤلاء إذا تمكنوا من أمثاله، على افتراض أنه "حيث هو" بريء من اللوثات ذاتها. 

نعود للتأكيد على أننا لا ننطلق من دوافع إنسانوية، رغم أهمية ما هو إنساني، ومن نافل القول أن الموتى لا يضيرهم التنكيل بهم، فالتنكيل أساساً هو بالأحياء الذي يشهدون ذلك فيضطرون إلى الصمت. ونخطئ إذا لم نرَ في هذا الثأري الشخصي نيلاً من مفهوم العدالة نفسه، فالجانب الشخصي من الخصومة يتوقف بحكم الموت، بينما يبقى الجانب المتعلق بصراع المفاهيم والأفكار والقيم، أما التركيز على الشخصي فيغطّي بطبيعته على ما يُفترض أن له الديمومة من أجل العدالة. نتجرأ، ونحن بمعظمنا ضحاياه، على القول أن الخصومة مع حافظ الأسد مستمرة بسبب توريثه الحكم، أي بسبب استمراريته البيولوجية، ولولا التوريث لصار منسياً لأن الخصومة انتقلت إلى مستبد آخر، أو لأن السوريين انتهوا من الاستبداد. 

ربما يجب القول أن تقديس الجثث ليس أقل ضرراً من التنكيل بها، فالتقديس ينزع عن الموتى إنسانيتهم بدعوى الإعلاء من شأنهم، وهي دعوى تفتقر بشدة إلى المصداقية عندما يكون هو نفسه تقريباً مَن يقول عن ميت أنه نفقَ وعن ميت آخر أنه ارتقى. والعلاقة الضَبْعية بالجثث قد تكون مفهومة عند صدورها عن أسديين بمختلف تجلياتهم وأشكالهم، لكن لا بد أن تثير الاستغراب بانتشارها في أوساط كان من المتوقع أن يحتفظ أفرادها بتذكار إنساني من الثورة التي انتسبوا إليها يوماً. ليس تزايد الوفيات بين السوريين هو وحده ما يقول إنهم ليسوا بخير؛ تعاطيهم مع موتاهم يقول أفظع مما يقوله الموت، وإن انتابته نوبة تكفير طارئة هنا أو هناك. 


المصدر: المدن

الوسوم :