محمود علوش
أجرى رئيس النظام السوري بشار الأسد في العشرين من فبراير شباط زيارة إلى مسقط هي الثانية المُعلنة له لدولة عربية بعد أبو ظبي منذ اندلاع الحرب. وجاءت الزيارة في ظل تحولات متزايدة طرأت على ديناميكية السياسات العربية في سوريا منذ النصف الثاني من العقد الماضي. رغم أن قلّة من الدول العربية كانت قد بدأت بإعادة علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق منذ عام 2018، إلاّ أن غالبية الدول الأخرى ظلت حتى وقت قريب متمسكة بموقفها الرافض للانفتاح على الأسد. مع ذلك، لم يكن هذا الموقف مُعبراً بشكل كامل عن التضامن العربي مع الثورة السورية بقدر ما كان نتيجة الانكفاء العربي السلبي عن سوريا، والذي أحدث فراغاً كبيراً في الدور العربي نجحت روسيا وإيران في ملئه. في الواقع، لم يكن سبب هذا الانكفاء محصوراً بشكل أساسي في الانتكاسة التي منيت بها الثورة بعد التدخل الروسي، بل أيضاً بغياب استراتيجية عربية واضحة ومتماسكة للتعاطي مع الصراع. في حين أن معظم الدول العربية دعمت في البداية الثورة ودعت صراحة إلى رحيل الأسد عن السلطة، إلا أن غياب التنسيق فيما بينها في دعم المعارضة وتفوق الهاجس من الربيع العربي في تشكيل سياسات بعض القوى العربية إزاء الصراع، أدّى إلى ظهور تنافس عربي ـ عربي أضعف الدور العربي في سوريا.
بعد عقد ونيف من الحرب، يسود اعتقاد متزايد في المنطقة العربية بأن عودة الانفتاح على الأسد لا مفر منه في ضوء التحولات التي طرأت على مسار الصراع وبأنها ستساعد في إعادة الدور العربي إلى سوريا وتهميش أدوار قوى إقليمية منافسة كإيران على وجه الخصوص. بينما كان التوجه العربي الجديد في سوريا محصوراً في السابق ببعض الدول التي تطمح للعب دور قيادي في الحالة الإقليمية كالإمارات، فإنه اكتسب زخماً أكبر من حيث اندفاعته واتساع رقعته بعد كارثة الزلزال المدمر الذي ضرب شمالي سوريا وجنوبي تركيا. يتمثل التغيّر الأبرز في موقف المملكة العربية السعودية التي أحدثت تحولاً في سياستها السورية وتخلت عن معارضة الانفتاح على الأسد وبدأت تتحدث عن الحاجة العربية إلى الحوار مع دمشق لمعالجة المسائل الإنسانية للصراع والمساعدة في عودة اللاجئين السوريين. في السياق الإنساني، يصعب إيجاد مسوغ لتبرير الانفتاح العربي على الأسد خصوصاً أنه المسؤول الأول عن تدمير سوريا وتهجير الملايين وتشريع البلاد أمام التدخلات الخارجية من كل حدب وصوب، لكن الاعتبارات الإنسانية إلى جانب اعتبارات الواقعية السياسية التي يستند عليها التوجه العربي الجديد تُظهر أن مخاطر إعادة تعويم الأسد تفوق أية مكاسب تتطلع لها الدول العربية في سوريا.
قبل كل شيء، دعونا نتفق على مسألة جوهرية وهي أن استمرار الانكفاء العربي عن سوريا لن يؤدي سوى إلى مفاقمة الوضع المأساوي للقضية السورية والمصالح العربية على حد سواء. وبالتالي، هناك حاجة إلى عودة دور عربي بناء في سوريا للمساعدة في إحلال السلام والاستقرار. لكنّ المُعضلة الكبيرة التي تواجه الانفتاح العربي على الأسد تمكن بشكل أساسي في أنه يخدم النظام وحلفاءه بقدر أكبر مما يخدم المصالح العربية في سوريا. مع أن أفق التحول في ديناميكية السياسات العربية في سوريا لا تزال غير واضحة أقله بالنسبة للقوى المؤثرة في السياق الإقليمي كالسعودية، إلا أنه لن يُساعد في دفع السلام المنشود في سوريا إذا لم يكن مقروناً بالتمسك بتسوية سياسية للصراع على أساس قرار مجلس الأمن الدولي 2254. عكس ذلك، سيزيد من فائض الثقة لدى الأسد وحلفائه بقدرتهم على إعادة تطبيع النظام عربياً دون الحاجة إلى إحداث تغيير سياسي حقيقي يُلبي التطلعات المشروعة للشعب السوري. إن دوراً عربياً جديداً في سوريا لا يُمكن أن يكون بناءً وقادراً على صنع السلام دون الأخذ بعين الاعتبار تطلعات السوريين في تحقيق العدالة الاجتماعية ومحاسبة المسؤولين عن جرائم الحرب وبناء سوريا الجديدة التي تُشكل إضافة للحالة الإقليمية لا عبئاً عليها.
علاوة على ذلك، فإن الاعتقاد السائد بأن عودة الدور العربي إلى سوريا سيؤدي إلى إضعاف التأثير الإيراني في هذا البلد يبدو غير واقعي على نحو كبير، وربما يأتي بنتائج عكسية. وحتى لو توفرت الرغبة لدى الأسد بإضعاف الدور الإيراني، فإن قدرته على فعل ذلك تبدو محدودة للغاية. لا يزال النظام يعتمد بشكل أساسي على إيران من حيث الحاجة لدورها العسكري وبدرجة أقل الدعم الاقتصادي الذي تُقدمه طهران لدمشق. كما أن الأسد يميل إلى إحداث موازنة في مصالحه بين إيران والدول العربية وهي نتيجة قد لا تكون مثالية للدول العربية الراغبة في تقييد الدور الإيراني في سوريا. إضافة إلى ذلك، فإن الشراكة المتنامية بين روسيا وإيران في أعقاب الحرب الروسية على أوكرانيا، تُضعف الرهان العربي على دور روسي في تحجيم التأثير الإيراني. بحكم الأثمان التي ينبغي على موسكو تقديمها لطهران مقابل الدعم الإيراني العسكري لها في حرب أوكرانيا والفوائد التي تجنيها من العلاقات الاقتصادية مع طهران في ظل عزلتها الغربية، فإنها تبدو عاجزة عن مقاومة طموحات إيران بزيادة تأثيرها في سوريا. في الواقع، ينبغي أن تُشكل الروابط العسكرية المتزايدة بين موسكو وطهران جرس إنذار للدول العربية لما يُشكله ذلك من تهديد للأمن العربي والإقليمي.
ما يطمح له الأسد في الوقت الراهن لا يقتصر على عودة اعتراف محيطه العربي بشرعيته فقط، بل أيضاً بالحصول على الدعم الاقتصادي من الدول الخليجية وانخراطها في جهود إعادة إعمار سوريا. مع ذلك، فإن عدم اقتران الانفتاح العربي على دمشق بشروط تؤدي إلى تفعيل مسار التسوية السياسية، يُشكل مغامرة عربية تنطوي على الكثير من المخاطر. فمن جانب، لا يُمكن تحقيق سلام مُستدام في سوريا من دون الأخذ بعين الاعتبار أن الغالبية الكاسحة من الشعب السوري تعارض العودة إلى حكم الأسد. كما أن اللاجئين السوريين في دول الجوار يُفضلون البقاء فيها على الرغم من أوضاعهم السيئة على العودة إلى سوريا من دون إحداث تغيير سياسي. ومن جانب آخر، فإن تنامي الانفتاح العربي على الأسد يُعزز الهوة في السياستين العربية والغربية في سوريا ويُضعف الفرص المتبقية للعالم لممارسة ضغط على النظام للقبول بتسوية سياسية. إن ما يحتاجه السوريون من العرب الآن ليس تطبيعاً مجانياً مع الأسد، بل انخراط في تلبية احتياجاتهم الإنسانية لا يُساعد نظام الأسد على الخروج من عزلته العربية، وتقديم استراتيجية واضحة تعيد إحياء العملية السياسية.
المصدر: تلفزيون سوريا