سامر إلياس
طرح الانهيار الدراماتيكي والسريع للحكومة الأفغانية وجيشها وأجهزتها الأمنية، بعد الانسحاب الأميركي، العديد من الأسئلة التي تتعدى الملف الأفغاني، ومنها سؤال حول إمكانية وواقعية تكرار المشهد في سورية. فرغم أوجه الاختلافات الكثيرة بين الأزمة في البلدين، لجهة نشوئها والقوى المحركة فيها والبيئة الجيوسياسية والمجتمعية التي يجري فيها الصراع وتركيبة نظام الحكم، إلا أن كثيراً من المقاربات تفرض نفسها، ما يعطي مشروعية لهذا السؤال، الذي لا يبدو بعيداً حتى عن دوائر صنع القرار في روسيا نفسها.
خبراء عسكريون وأمنيون روس، إلى جانب محللين سياسيين، انشغلوا في تفسير أسباب النصر السريع والسهل لحركة "طالبان". وهذا طبيعي انطلاقاً من تهديدات محتملة تطاول الأمن القومي لروسيا وحلفائها في دول آسيا الوسطى، وهو ما عكسته عشرات التصريحات المتواترة لمسؤولين روس قبل وبعد الانسحاب العسكري الأميركي، وحسم "طالبان" للوضع لمصلحتها من دون مقاومة تذكر.
تستند غالبية التفسيرات والتحليلات، التي قدَّمها خبراء ومحللون روس، إلى خبرة طويلة ومتابعة حثيثة لتطورات وتداعيات المشهد الأفغاني، الذي لم يغب يوماً عن التصريحات والتغطيات الإعلامية الروسية منذ الاحتلال العسكري الأميركي للبلاد، وفي الخلفية التاريخية ما سبق ذلك من هزيمة للاتحاد السوفييتي هناك، وانهيار حكومة محمد نجيب الله عام 1992، الذي لجأ إلى مقر الأمم المتحدة في كابول، وبقي مختبئاً فيه إلى أن اقتحمت عناصر من "طالبان" المقر وأعدمته خريف 1996.
إلا أن توخي الموضوعية في التحليلات لا يحقق المراد منها. ففي قراءة لما خلف سطورها تظهر محاولات تورية لنفي صحة أي مقارنة بين الوضع في أفغانستان ومآله والوضع في سورية، من زاوية مصير النظام السوري ارتباطاً بوجود الدعم العسكري الروسي، أو بمعنى أوضح إمكانية صمود النظام من دون إسناد مباشر من موسكو. لكن اللافت أن تلك التحليلات تدفع المتابع لها نحو إسقاط ما تذهب إليه من تفسيرات على الملف السوري، لوجود الكثير من العناصر المشتركة في المعضلات، التي قادت إلى انهيار نظام الحكم الأفغاني الذي هندسته واشنطن على مدار 20 سنة، ومعضلات مشابهة تعصف بنظام الأسد، وبالمشروع الروسي في سورية.
سيميون شانكين، وهو ضابط سابق في المخابرات الروسية، فسر سبب سقوط حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني وانتصار "طالبان" بأنه يعود إلى "الدعم الشعبي للحركة". وقال، في مقابلة مع محطة القوات المسلحة الروسية "زفيزدا"، في 19 أغسطس/آب الحالي، إن "الأميركيين لم يفعلوا شيئاً للشعب الأفغاني. فقد اكتفوا برمي الدولارات التي لم تصل إلى عامة الشعب. ولهذا حظيت حركة طالبان بالدعم الشعبي، ولم تجد صعوبة في دخول العاصمة كابول". التفسير الرسمي الروسي جاء على لسان وزير الخارجية سيرغي لافروف، في كلمة ألقاها في جامعة البلطيق الفدرالية في مدينة كاليننغراد في 18 الشهر الحالي، بقوله "إن الخطأ الرئيسي الذي ارتكبه الغرب في أفغانستان كان محاولة إجبار الأفغان على العيش وفقاً لقوانينهم، متجاهلين التقاليد التي عاشت بموجبها الدول الأخرى لقرون".
كلا التفسيرين صحيحان من حيث المبدأ، بيد أن القبول بهما يجب أن يجيز محاكمة النهج والمشروع السياسي الروسي في سورية. فإذا كانا قد أديا إلى انهيار الحكومة والجيش الأفغاني بسرعة البرق، في حسابات السياسة، بعد الانسحاب الأميركي، فلماذا يرفض الروس، من حيث المبدأ، أي مقارنة بين الملفين الأفغاني والسوري، أو بين المشروعين الأميركي والروسي ومآلها؟ مع التأكيد على أن الحديث هنا يدور عن المشترك بين الملفين والمشروعين، آخذين بالاعتبار الفوارق بينهما.
رامي الشاعر، الدبلوماسي السابق والمقرب من وزارة الخارجية الروسية، نشر مقالاً مطولاً في صحيفة "النهار" اللبنانية، في 18 أغسطس الحالي، تحت عنوان "سورية لن تواجه مصير أفغانستان". العنوان بحد ذاته يكشف، بشكل أو بآخر، عن حقيقة وجود هواجس لدى دوائر في الخارجية الروسية، وإن جاء بصيغته جازماً في نفيه لأي مقارنة أو مقاربة بين الملفين السوري والأفغاني. وقال الشاعر: "لا أحد يريد أن يتكرر المصير الأفغاني المؤسف في سورية، ولن يحدث ذلك ببساطة، لأن كل الجهود التي تبذلها موسكو في سورية إنما تستند إلى معرفة عميقة بطبيعة المجتمع السوري، ولا توجد أي رغبة من الطرف الروسي لفرض أي أجندة خارجية على الشعب السوري الذي يدرك تماماً ما يريد، وقادر بلا شك على تجسيد إرادته السياسية من خلال صناديق الاقتراع، وانتخابات شفافة ونزيهة بإشراف هيئة الأمم المتحدة، كما نص قرار مجلس الأمن رقم 2254". وأضاف، موضحاً وجهة نظره، أن "التواجد العسكري الروسي في سورية لم يأت بهدف تثبيت نظام معين، وإنما أتى بطلب رسمي من الحكومة الشرعية في دمشق، لحماية الشعب السوري من التنظيمات الإرهابية. وقد نجحت روسيا في ذلك بجدارة، لا من خلال التدخل العسكري وحده، وإنما أيضاً من خلال التوصل إلى مواءمات وتعاون دولي واسع، خاصة مع تركيا وإيران، وبإشراف من هيئة الأمم المتحدة، وما زالت الجهود مستمرة لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 2254 لحل الأزمة السورية".
أما السبب الثاني، وفقاً لما يراه الشاعر، فهو أن "الجيش السوري وتركيبته الأمنية منظمة وصارمة وقوية للغاية، وبنية سورية على مدى عشرات السنين رسخت وجود هذا الجيش بحاضنة شعبية معتبرة، لن تنهار مثلما حدث مع الجيش الأفغاني الذي تديره حكومة مستوردة من الخارج". وتابع "يحظى الجيش السوري بقاعدة تمثّل ما بين 10 إلى 15 في المائة من الشعب السوري. إلا أن ذلك الوضع لا يمكن أن يكون مستداماً من دون اتساع لهذه الحاضنة الشعبية، التي تمنع وتضمن استحالة انهيار الدولة كما حدث في أفغانستان، حيث انهار الجيش الأفغاني، الذي حصل على مليارات الدولارات من تدريب وعتاد وأسلحة، في ظرف أيام معدودة".
هنا يبرز جلياً للعيان تناقض يجعل من الدفاع عن صلابة المشروع الروسي والنظام في سورية كاشفاً لهشاشته، فكيف لجيش يمتلك حاضنة تمثل فقط ما بين 10 إلى 15 في المائة من الشعب السوري أن يصمد بقواه الذاتية؟ وهل حقاً أن التدخل الروسي لم يأت لتثبيت نظام الأسد؟ وعلى ضوء وقائع ما جرى في متوالية المفاوضات في جنيف وسوتشي وأستانة وغيرها، والكيفية التي تعاملت موسكو مع مسارها ونتائجها، هل هناك ما يؤكد أن المشروع الروسي يهدف إلى تسوية سياسية في سورية على أساس قرار مجلس الأمن 2254؟ للتذكير، فإن الشاعر نفسه كشف، في مارس/آذار 2021، في تصريحات لصحيفة "الشرق الأوسط"، عن فحوى 40 رسالة متبادلة بين مسؤولين في النظام ومسؤولين روس حول تطورات الأوضاع الميدانية بين عامي 2013 و2015، رسخت القناعة لدى موسكو في خريف 2015 بضرورة الإقدام على تدخل عسكري لمنع سقوط دمشق في أيدي المعارضة.
ومن الواضح أن محاولة الدبلوماسية الروسية إضفاء طابع موضوعي ومرن على رؤيتها لحل الأزمة الأفغانية سياسياً، لم يقابلها نهج مماثل من قبل موسكو بالنسبة للملف السوري، وما زالت تتعامل بازدواجية لن تخرج منها إلا بإجراء مراجعة شاملة لنهجها بخصوص الأزمة السورية. لكن حتى اللحظة، لا توجد مؤشرات عملية ذات وزن تدلل على أنها بصدد الإقدام على ذلك طواعية.
خشية روسيا من إجراء مراجعة لسياساتها في سورية ربما تضعها أمام حقيقة أنه آن الأوان لإلقاء ورقة الرئيس الأسد على طاولة التسوية. وسبق لها أن لوَّحت مواربة باستعدادها لذلك منذ بداية الأزمة السورية، وهذا يعيدنا إلى ما صرَّح به الرئيس فلاديمير بوتين، في مؤتمر صحافي في 20 ديسمبر/كانون الأول 2012، حيث قال: "نحن لسنا قلقين على نظام بشار الأسد في سورية، بل نحن قلقون بسبب ما يجري هناك حالياً. نحن ندرك أن هذه العائلة توجد في السلطة منذ 40 سنة، ولا ريب أن التغييرات لا بد منها".
بعيداً عن التكتيكات التي اتبعتها موسكو، خاصة بعد تدخلها العسكري المباشر في سبتمبر/أيلول 2015، فإنها ستبقى تتعامل مع بشار الأسد ونظامه كورقة لتحقيق مكاسب استراتيجية من البوابة السورية، هدفها انتزاع حضور قوي في منطقة المتوسط، الضامن له، من وجهة النظر الروسية، تسوية سياسية متوافق عليها مع الولايات المتحدة الأميركية والدول الغربية والإقليمية المؤثرة في الملف السوري.
ويبدو أن دوائر في الخارجية الروسية باتت مقتنعة بأن موسكو يجب أن تلعب ورقة نظام الأسد قبل فوات الوقت، ودخول الملف السوري في معادلات جديدة ليست في صالحها، سلط الضوء عليها الوضع الجيوسياسي المستجد في أفغانستان، بعد انتصار حركة "طالبان" وانهيار نظام الحكم الموالي لواشنطن. فروسيا لم تعمل فقط، خلال السنوات الماضية، على إضعاف المعارضة السورية وتفتيتها، بل أضعفت النظام أيضاً وجعلته، إن صح التعبير، يستمد وجوده من تنفس أوكسجين الدعم العسكري الروسي. كما أن موسكو وضعت من بين أهدافها الحدّ من النفوذ الإيراني، بشكل مباشر، عبر التنافس معها على الأرض، وغير مباشر بإطلاق يد إسرائيل لتنفيذ هجمات على المليشيات التابعة لطهران. ويندرج هذا في سياق سعيها للتفرد بإمساك الملف السوري. في المقابل، تدرك موسكو أنه ليس باستطاعتها توفير دعم كاف لإنقاذ الاقتصاد السوري من حالة الانهيار، الذي من المقدر أن يؤدي إلى تنامي النقمة الشعبية على النظام، وصولاً إلى انتفاضة شعبية ثانية ضده، تشارك فيها قطاعات واسعة من الفئة المصنفة كقاعدة وخزان بشري له.
وفي ظل التجربة الأفغانية، يبدو أنه بات لزاماً على روسيا خفض سقف المكاسب التي تراهن على تحقيقها في سورية، وأن يقتنع المسؤولون عن إدارة الملف أن لا حظوظ لموسكو في النجاح بلعب ورقة التخلي عن النظام ورأسه، إلا إذا أكدت صراحة عودتها للمبادئ الخمسة الرئيسية التي أعلنتها مبكراً لتسوية الأزمة السورية، والالتزام بتلك المبادئ، وهي: "التسوية السياسية عن طريق حوار غير مشروط، ولا للحسم العسكري، وتنظيم انتخابات، وصوغ دستور جديد، وبناء دولة ديمقراطية في سورية"، وهذا ينسجم إلى حد مقبول مع أسس القرار الدولي 2254.
المصدر: موقع "العربي الجديد"