أحمد جاسم الحسين
أعادت أحداث الزلزال الذي ضرب سوريا وتركيا وذهب ضحيته عشرات الآلاف من الضحايا والمشردين الباحثين عن مأوى وما رافقه من أحداث وشعارات وظلم وعنصرية، تعرض لها السوريون فتح ملف البحث عن مخرج حياة آمن، وبالتأكيد لن يكون هذا المخرج هو العودة إلى سوريا، لذلك نشط مرة أخرى سوق التهريب والاتفاقات مع المهربين لمن يحملون الإقامة التركية وكذلك لمن يحملون الجنسية التركية من السوريين، وفي حديث مع أحد المهربين يقول إن هناك دفعات جديدة ينتظرون وصولها إلى صربيا رغم سوء الطقس في الأيام القادمة. وأن عدداً كبيراً من هؤلاء سيصل عبر الطائرة إلى صربيا أو سواها من دول مجاورة.
بل إن هناك دعوات في أوروبا بين السوريين تقول: بدلاً من إرسال الحوالات أو المساعدة المادية، لتتكفل كل مجموعة بشرية بالمساعدة بإيصال شخص من كل عائلة إلى أوروبا؛ ليقوم بلمّ شمل عائلته كحل جذري لجانب من المأساة السورية!
وكان أحد الأسئلة التي تطرح قبل الزلزال هو: ما الذي يجعل مواطناً تركياً من جذور سورية يتخلى عن جنسيته التركية، ويعيد توطين نفسه في دولة أوروبية عبر التهريب؟
ينطوي مثل هذا القرار على أسباب عدة لعل أبرزها عدم الشعور بالتكافؤ والمساواة مع مواطني البلد الأصليين، وقد يكون ذلك في فرص العمل أو في مسار الحياة اليومية أو في التعامل مع أطفاله، أو انسداد آفاق الحياة. والشعور بالمواطنة المفقود في هذه الحالة لا تتضمنه الأوراق الرسمية، بل هو حالة تحس بها وتملؤك مساواة وشعوراً بالعدالة، بحيث إنك لا تجد نظرة من شرطي أو موظف، أو تغيراً في ملامح وجه من تقابله حين يعرف جذورك، أو تعليقاً عليك بهمهمة أو سواها يدفعك للشعور بالضعف أو أنك مواطن من الدرجة الثانية حين لا تكون لغتك التركية لغة أم، فأنت تعلمتها لاحقاً لا عيب في ذلك عليك ولا تثريب، الأمر من جهة أخرى، لا يخص رهافة حسك أو أنك تبالغ في ردة الفعل، بل شعورك أنه لا قانون يمنع من يريد أن يسيء إليك، أو يزعجك بنظرة!
بعيداً عن القانون، هناك ثقافة شعب، فهل الشعب الذي تجنست بجنسيته شعب غير عنصري: لغة وعادات واعتداداً وانتماء، وهل يقبل الآخر؟ أم أنه يرفض الآخر؟ وما دور الحكومات والأحزاب في ذلك؟ هل مهمتها البحث عن عوامل انتماء جديدة أم أنها تعول على زلازل التعصب والقومية كي تبقى متماسكة، ولم تستطع أن تفرز عوامل جديدة مختلفة من مثل قيم القانون أو المساواة أو قبول الآخر لتكون عاملاً يضم عصبة الشعب لتصبح عصبته الإيمان بالآخر، أكثر من التمركز حول الذات وأمراضها؟
يعدُّ السوريون من الشعوب التي تعتز بذاتها وتجاربها، ولديهم مركزية حول الذات بنسبة كبيرة، لكنهم في الوقت نفسه يجدون ذاتهم غالباً في مواضع كثيرة إبان التواصل مع الآخر أو بناء جسور معه، وبكلمات قليلة، وشيء من المشتركات سرعان ما تدخل قلبه وتغدو أخاً له، فيبادلك الكثير من المودة والرغبة بالخدمة والمساعدة. لذلك حين يقوم السوري بترك بلد ما والهجرة منه، فهذا يعني أن كل مرونة السوري وقدرته على تحمل الصعاب وعمله الطويل بالتجارة وطيبة قلبه لم تعد تجدي نفعاً أمام الحالة الصعبة التي يمر بها في بلدك، إذ يترك كل ما بناه خلفه وينطلق في رحلة جديدة في سياق زلازله التي امتدت عقداً من الزمان وأكثر، عليكَ أن تفكر في بلدك جيداً إن هجره السوري!
كفاءات علمية وفكرية وتجارية وإعلامية سورية حصلت على الجنسية التركية في السنوات الأخيرة، لكنها بدأت بضب حقائبها ومغادرة تركيا على أمل الحصول على فرصة حياة قانونية، وبنسبة أقل من القلق والخوف واللا أمان الذي جعله لصيقاً بها النظام السوري القمعي الاستبدادي، ولا يوجد أصعب من عدم الشعور بالأمان الفكري والمعيشي والحياتي على النفس البشرية.
تُعَرَّف إعادة التوطين وفقاً لهيئات الأمم المتحدة بأنها الانتقال من بلد اللجوء الأول إلى بلد لجوء جديد، وعادة ما تتكفل به الأمم المتحدة من خلال متابعة الحالات الأكثر ضعفاً التي لديها حالات مرضية أو سواها، وقد أفاد من هذا البرنامج آلاف السوريين بخاصة ممن يقيمون في تركيا والأردن ولبنان في العقد الأخير.
لكن ثمة اليوم إعادة توطين اختيارية/إجبارية وإرادية/ زلزالية يقوم بها السوريون المجنسون في تركيا من خلال الانتقال عبر الطائرة إلى دولة ملاصقة للاتحاد الأوربي عبر الإفادة من جواز السفر التركي للوصول إلى الاتحاد الأوروبي، وهي رحلة غير شاقة وأقل تكلفة وأكثر حفظاً لماء الوجه من الوقوع بين يدي مهربين يرون في كل شخص أنه عشرة آلاف يورو أو أكثر. وما إن يصل السوريون إلى بلد اللجوء الذي اختاروه حتى ينكروا الجنسية التركية ويعودوا للجذر السوري، أو يقرون بجنسيتهم التركية ويتحدثون عن معاناتهم من حيث عدم الشعور بالأمان والمساواة أو فقدان فرصة العمل أو ضنك العيش.
والتجارب تشير إلى حالات استجابة مختلفة من قبل أصحاب القرار في الدول الأوروبية؛ فمنهم من يعد وجود الجنسية التركية كافياً لحياة آمنة ولا يوافقون على منح السوريين الحاملين للجنسية التركية حق اللجوء، ومنهم من يقول: إذا كان التركي/ المواطن الأصلي/ بات ينافس السوري في اللجوء، نتيجة فقدان أجواء الحرية، فبالتأكيد السوري الحاصل على الجنسية التركية بالتجنيس لن ينعم بحرية وعدالة لم تتوفر لسواه.
تحمل قضية إعادة التوطين "تهريباً" جوانب عدة من المأساة: على مستوى السوريين أنفسهم، والدولة التركية، والدولة الأوروبية.
فالسوريون الذين ظنوا أنهم ببقائهم في الدول المجاورة أو حتى من بقوا في سوريا يزداد اقتناعهم يوماً بعد يوم أن خيارهم كان زلزالياً، ويقولون: ليتنا منذ البداية حزمنا حقائبنا نحو من لا نتشارك معه في اللغة أو الدين، أو الثقافة، حسبنا أن نتشارك معه في الإحساس بالبشرية، ويعضون أصابعهم على السنوات التي ضيعوها من أعمارهم وأعمار أولادهم، ويقولون: ما أصعب البدايات الجديدة كل مرة وما أكثر جلبها لحالة عدم التوازن وإهراق العمر بالانتظار!
على مستوى كينونة الدولة التي تم التخلي عن جنسيتها، ما أصعب أن تكون تلك الدولة دولة طاردة في عصر تقتضي البشرية التواصل والتعاضد والتشابك والتقاطع، نتيجة حاجة الدول والمجتمعات إلى بعضها بعضاً، وهذا البناء الإنساني مهم جداً، وليس أقل من البناء الاقتصادي والاهتمام بتضخم العملة والسعي لتخفيضه وهناك تضخم في طرد الآخرين أو تحميلهم المشاكل، وهناك زلزال في قيم الدولة الأساسية، لا شك أن هذا الجانب جانب استراتيجي، قد لا يكون عملة "بيّاعة" في سوق الانتخابات أو يوميات السياسيين، لكن ما الفائدة إذا ربحت الانتخابات وخسرت القيم الإنسانية الأساسية؟
الدول الأوروبية ونتيجة من لجؤوا إليها وما تعرضوا له، وأسباب لجوئهم باتت تبتعد أكثر وأكثر عن فكرة القبول بأن تكون تلك الدولة جزءاً من الاتحاد الأوروبي، نتيجة الاختلاف في القيم والمفاهيم والرؤى الأساسية. بل إن الحلول التي اقترحتها تلك الدول والاتفاقات التي عقدتها فيما يخص اللاجئين كانت حلاً زلزالياً غير ناجع. فها هم يطرقون الباب مرة أخرى وإنْ بطريقة أخرى. وكل التغاضي عن جرائم المجرم الذي كان السبب في كل ذلك اللجوء لم يجدِ ولم ينفع. ويسمع محققو اللجوء يوماً بعد يوم أنه لو أصبحت سوريا دون النظام المجرم وتزلزلت به الأرض؛ فإنه خلال سنة ستجد أن أكثر من نصف السوريين، على الأقل، قد عادوا إلى بلدهم بكل سرور وامتنان ورضا.
بالتأكيد هناك مئات الأمثلة والتجارب الشخصية التي يمكن أن يستشهد بها سوريون عن أشخاص أتراك إيجابيين أو زملاء عمل أو دراسة تبادلوا معهم الخبز والملح والأوقات الجميلة والصعبة. ولا أحد ينكر ذلك أو ينفيه، فالشعوب فيها شرائح مختلفة من البشر وعياً وقبولاً للآخر..
المقصود في هذا السياق منظومة البلد وثقافته العامة والمرجعيات القانونية التي تحمي الجميع وتشعرهم بالعدالة والحرية والأمان، حيث يكون القانون هو المرجع. ومن جهة أخرى هو شعور المواطنة الذي يبعثه فيك الثقة بشعبه الشريك لك، وقبوله للآخر، وهو ما تلمسه منذ الشهور الأولى التي تصل فيها إلى معظم البلدان الأوروبية. فيما افتقده أحبة وأصدقاء ومعارف حملوا الجنسية التركية، لكنهم لم يشعروا بأمانها المنتظر؛ فأعادوا توطين أنفسهم تهريباً أو عبر مؤتمرات أو منح دراسية أو سوى ذلك في مسعاهم، الذي أقرته أدبيات الأمم المتحدة، نحو الشعور بالأمان بمختلف معانيه، وهو مسعى يستحق زلزلة رحلة التهريب أو سواها، إذ يكفي السوريين ما عانوه من زلازل عامة وشخصية وأوجاع، وما فقدوه في سنواتهم الأخيرة.
المصدر: تلفزيون سوريا