محمد صخر بعث
منذ أيّام أصبح الحدّ الأدنى للأجور في تركيا 8500 ليرة، أي ما يعادل الآن حسب الآلة الحاسبة 459 دولار تقريباً.
هذا الأجر يُعطى للعاملين الذين في هم في أدنى درجات الوظيفة والشهادة العلمية والسنّ، يعني مثل مستخدم بسيط في دائرة حكومية، أو موظّف أمن شابّ في بنك أو مؤسّسة خدمية، أو عاملة نظافة في مستشفى، أو مثل سائق مركبة حكومية مدرسية مثلاً أو عمومية، ولا يُعتبر هؤلاء هُنا -أي في تركيا- من الطبقة متوسّطة الدخل، بل من الطبقة الأكثر قرباً إلى الفقر إن صحّ التعبير، لأنّ الأجور التي يتحصّلون عليها جرّاء عملهم في القطاع العامّ أو الخاصّ هي الأدنى حقيقةً، وببساطة يمكن القول: إنّ أيّ موظّف أو عامل مرخّص له بالتوظّف والعمل مهما كان نوع الوظيفة أو العمل ومهما كان شأنه هو، لا يمكن بأيّة حال أن يقلّ راتبه أو أجره عن 459 دولاراً، كما منذ دقائق حسبت ذلك بالآلة الحاسبة.
هذا هو الأجر الذي حدّده وأقرّه "القانون"، أي لا يجوز بتاتاً وعلى الإطلاق ومهما كانت جنسية العامل المرخّص له بالعمل الحصول على وظيفة مرخّصة في تركيا بأجر يقلّ عمّا قرّره القانون، وحين أعلن الرئيس التركي عن ذلك، لم يعلن عن قرار اتّخذه بنفسه بل عن قانون سُنَّ وفق الدستور وموجباته وحسب الإجراءات التشريعية النافذة، بل وبعد خُطط وتحليلات وتقييمات، حتّى أنّ سلسلةً من الاجتماعات والمفاوضات قد أجريت بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية من جهة مع نقابات العمل في تركيا على أشكالها من جهة أخرى، ولم يكن هذا واجباً على الحكومة التي تحصّلت على هذا القرار "تشريعياً"، لكنّه التفات واهتمام واجب، هكذا.. ليس واجباً لكنّه واجب، والسبب ببساطة "الديمقراطية"، ما يعني بالضبط وبتركيز الأخذ بالمشورة أو مشاورة ذوي الشأن، وإن كان لأسباب جماهيرية مثلاً أو بطريقة أكثر تركيزاً بسبب الانتخابات أو لأجل إثبات الذات أو لتأكيد المصداقية، وحلال على الشاطر كما يُقال، فلقد بلغ حجم "التضخّم" في تركيا ما بلغ، لكنّ الموظّف التركي وإلى حدّ كبير لن يشعر بذلك طالما سيستطيع دفع ما ينبغي دفعه من أجور ونفقات وفواتير كي يعيش مكتفياً، بل ويزيد.
هؤلاء وغيرهم أو غيرهنّ من الموظّفين الأتراك الذين في أدنى المراتب الوظيفية يستطيعون ويستطعن وخاصّةً إن توفّر أجر آخر للشريك (الزوجة أو الزوج) وبنفس مبلغ الأجر هذا شراء بيت وسيّارة فوراً، فمبلغ 900 دولار شهرياً يعني تماماً وعلى أكبر تقدير بالنسبة للمواطنين الأتراك 200 دولار للسكن ولفواتير المعيشة لمن لا يملكون منزلاً أصلاً، 300 دولار طعام وماء، 100 دولار مصاريف متفرّقة، ويبقى 300 دولار أقساط بيت صغير وسيّارة عادية، وإن كان لدى الموظّف التركي أو الموظّفة التركية سكن مجّاني وشريك عامل فسيكون لديهما بيت وسيّارة أفضل بتقسيط مريح وفوائد يبدو أنّ قيمها لن تنخفض لسنوات عدّة قادمة، بل وما زالت دعوات الحكومة قائمة لتخفيض أسعار الفائدة إلى أقلّ من 9% كما هي الآن.
مرجع هذا الاستهلال الطويل وخلاصة الحديث عنه أنّ هذا الحدّ الأدنى للأجور مفروض حتّى بالنسبة للأجانب الذين يعملون بإذن عمل أي برخصة، ولا يمكن إعطاء أحد منهم أقلّ من هذا الأجر ما داموا في دائرة العمل الرسمية، لكنّ ما يحدث في الحقيقة وخاصّةً بالنسبة للسوريين أنّ أغلب المنخرطين في سوق العمل التركية يعملون بأجور زهيدة وفي ظروف متعبة وقاسية، ولو تمّت معاملتهم بمثل ما يُعامَل به المواطنون الأتراك لكانَ هناك كلام آخر.
ربّما وضع نزوح السوريين إلى تركيا أمام استحقاقات جديدة أو حتّى تحدّيات كبيرة إلى درجة ما، لكن ينبغي الإشارة هُنا إلى أمرين: الأوّل أنّها ليست المرّة الأولى التي تواجه فيه الدولة التركية هذه القضية، فلها باع طويل مع "أزمات اللجوء" ومن شتّى بقاع العالم وخاصّةً من الشرق الأوسط ومن أوروبّا أيضاً كما جرى بعد الحرب العالمية الثانية، كما ولقد عرف الشعب التركي نفسه بعد تلك الحقبة موجات من الهجرة إلى أوروبا وخاصّةً إلى ألمانيا، وأمّا الأمر الثاني وهو أساسي، فإنّ السوريين في تركيا ليسوا لاجئين بالمعنى القانوني للكلمة بل تعيش الغالبية العظمى منهم تحت نظام قانوني وتشريعي وإداري خاصّ سنّته السلطات التركية وهو "نظام الحماية المؤقّتة"، ولا يمنح هذا النظام للسوريين ولا لغيرهم ممّن تشملهم أحكامه حقوق اللاجئين التي نصّت عليها اتّفاقية اللاجئين التي أقرّتها الجمعية العامّة للأمم المتّحدة في تمّوز 1951، الاتّفاقية التي عرّفت باللاجئ وبحقوقه وواجباته، فكان من أهمّ حقوقه وفقها أن يحصل على سكن لائق ومعاش أو مصروف معقول، ومن أهمّ واجباته أن يسعى للاندماج في مجتمعات الدول المُضيفة، ومن أهمّ سُبُل هذا تعلّم لغاتها والالتزام بأنظمتها تماماً، ولم ينطبق أو لم يطبّق هذا على السوريين الموجودين في تركيا نزوحاً أو إقامةً أبداً.
ما حصل بالفعل أنّ التخوّف أو لنقُل وبلا أسباب إنّ عدم إعطاء السوريين في تركيا هذه الفرصة للاستقرار بهدوء والعمل بحرّية أودى بالكثير منهم إلى التماس طرق غير شرعية للمكوث في تركيا وهم تحت ضائقة الفقر والعوز، ومن أهمّها القبول بالانخراط في سوق العمل التركية تحت هذا السندان وتحت مطرقة استغلال هذه الضائقة من قبل أرباب العمل حتّى ومن السوريين المشغّلين أنفسهم، فلقد بات الكثير من السوريين -يا للأسف- يستغلّون حاجة الكثير من السوريين للعمل من أجل البقاء، وليس من أجل البقاء في تركيا بسبب فرص العيش بأمان واستقرار، بل فقط من أجل البقاء وأسَرِهم على قيد الحياة.
وحين يتصوّر البعض أنّ إعطاء السوريين في تركيا حقوق اللاجئين التي أقرّتها المعاهدات الدولية مرّات ومرّات سوف يضعف لديهم الشعور بالرغبة أو الرغبة فعلاً بالعودة إلى سوريا، وقد يكون هذا صحيحاً إلى حدّ ما، لكن بالمقابل.. إنّ هذا وبالتأكيد سيخلق لدى كلّ سوري يشعر بالاستقرار ويعيش بطمأنينة سواء في تركيا أو في غيرها من بلدان وأصقاع النزوح واللجوء حافزاً للعمل والإنتاج وبذل كلّ جهد ممكن للانخراط في المجتمعات الجديدة على أساس من المساواة والتمكين، وسيكون بوسع الجميع إذا وصلت الأوضاع في سوريا إلى حالة الحلّ النهائي وإعادة الإعمار العودة والمشاركة في البناء ودعم الاستقرار وفي إنعاش الاقتصاد وفي التنمية، أمّا الإبقاء على هذه الظاهرة العنيفة وهي عدم إدماج السوريين في المجتمعات الجديدة -تركيا نموذجاً- وعدم تمكينهم من حقوقهم وخاصّة حقوق العمل بكرامة وحرّية ومساواة، فيفتح ذلك بابين اثنين: الأوّل هو العمل على إيجاد حلول خارج تركيا وهي الهجرة أو اللجوء إلى أوروبا أو غيرها أو التفكير الدائم بذلك بسبب عدم الاستقرار، والثاني التقوقع ضمن هذه المجتمعات في مجتمعات أخرى صغيرة بل ولقد أصبحت كبيرة بالفعل ولقد تناثرت هنا وهناك وهنالك، ومن يتجوّل لدقائق معدودة في الشارع "الإيراني" في غازي عنتاب التركية، الشارع الذي أصبح بشكل شبه كامل شارعاً سورياً بل حلبياً بالتحديد، سيرى بأمّ عينيه شارعاً أو حيّ الخالدية في "حلب" بكلّ ما فيه من تفاصيل.
الحلّ الذي ينبغي بعناية الالتفات إليه هو تغيير المواقف القانونية التركية من السوريين، والضغط الضغط ثمّ الضغط لإيجاد حلّ نهائي لقضيتهم، حلّ يمكّنهم من العودة الحرّة الكريمة الآمنة.
المصدر: أورينت نت