عمر الشيخ إبراهيم
تزداد وتيرة التصريحات التركية تجاه عقد لقاءات مع النظام السوري، وتكرّر فيها أنّ هدف اللقاءات "إحلال السلام في المنطقة". وتوحي مثل هذه التبريرات بعدم احترام عقول السوريين وآلامهم ودماء الجنود الأتراك الذين قتلهم نظام الأسد... لكن، من قال إنّ السياسة والضمير الإنساني يسيران جنباً إلى جنب؟
يبدو أنّ صانع الخطاب التركي الرسمي يعتقد واهماً أنّ مستوى إدراك أنفة جمهور الثورة السورية وأنفتها هو نفسه ما اعتاد من المعارضة السورية. ولذلك لا يكلف نفسه بإيجاد مبرّرات منطقية لتسويق خطابه ذاك لديهم. والواضح أنّ تركيا تنظر إلى المعارضة السورية وجمهور الثورة، وربما إلى جيرانها العرب والكرد كذلك (القوميات التي حكمها العثمانيون)، نظرة التابع، لا الشريك أو الندّ، عكس نظرتها إلى إيران (الفرس) على سبيل المثال. لذلك، على صانع القرار التركي مراجعة خطابه وسلوكه إذا أراد الحفاظ على ما تبقّى له من ثقة لدى السوريين وحماية مصالحه، بخاصة أنّ الوجود التركي في سورية ربما سيكون مشابهاً لوجودها في قبرص، بمعنى أنّ أمده سيطول.
جعل هذا السلوك تركيا تخسر حلب، وهي شريان الحياة لنظام الأسد، وانقلبت الوقائع منذ ذلك الحين، ثم خسرت كركوك لصالح إيران، كما تخسر مكانتها لدى الشارع السنّي بعد تحالفها مع إيران والتوتر مع السعودية، وتخسر مكانتها لدى الشارع العربي بعد تحالفها مع روسيا، كما تكاد تخسر أيضاً صفتها الإنسانية بلداً راعياً ومحتضناً للفئات الساعية نحو التغيير الديمقراطي جرّاء ارتفاع وتيرة الخطاب العنصري ضد العرب، والتضييق على السوريين هناك بمبرّرات مختلفة.
تحمّلت تركيا ضغوطاً داخلية ودولية، وتعرّضت لهزّات اقتصادية وسياسية لمواقفها من الربيع، وقدّمت الكثير للسوريين، وقد أقرّوا به مراراً وما زالوا، لكنّ الأكيد أيضاً أنّها كسبت كثيراً جرّاء ذلك، فقد أصبحت اليوم لاعباً إقليمياً ودولياً أساسياً في عدة ساحات صراع، بدءاً من سورية ثم ليبيا وملف الطاقة في المتوسّط، وصولاً إلى أوكرانيا بعد ناغورني كاراباخ. وتعلم أنّ سورية كانت حجر القبّان في كسب هذا الثقل الدولي، ويريد راسم السياسة التركية الحفاظ عليه، ويعلم أنّ له أثماناً يجب دفعها، وقد تكون سورية إحداها.
بالانتقال إلى الحديث عن قلق تركيا من تعزيز سلطة حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD) على طول حدودها مع سورية، وهو مشروع، وهواجسها محقّة بشأن إمكانية نشوء كيان ذي خلفية قومية كردية على حدودها، ولديها خشية استراتيجية من انتقال العدوى إلى داخل أراضيها ذات الكثافة الكردية والتوّاقة لحلم الاستقلال يوماً ما... لكن ألم تساهم تركيا في نشوء سلطة "الإدارة الذاتية" (الكردية) وتعزيزها؟
تضع تركيا الكرد في الدول الأربع (سورية والعراق وتركيا وإيران) في سلة واحدة، وترى أيّ حراك سياسي في هذه الدول تهديداً لأمنها القومي، فلولا نظرتها هذه لاستطاعت الاستفادة من المجلس الوطني الكردي، وهو أكبر مظلة تمثل السوريين الكرد، والذي اتخذ منها مقرّاً له مع اندلاع الثورة السورية، لكنّها لم تدعمه، لا بل أهملته، وكانت تستقبل الرئيس السابق لجزب الاتحاد الديمقراطي، صالح مسلّم، ويلتقيه وزير خارجيتها الى حدود عام 2014، إذ انتهت تلك اللقاءات بعد رفضه المطالب التركية. وأدّى إهمال أنقرة المجلس الوطني الكردي بكلّ تنسيقياته (المدنية) وأذرعه العسكرية الناشئة إلى إحداث فراغ في الجزيرة السورية وحوض الفرات، وإنتاج بيئة مناسبة تماماً لحزب العمّال الكردستاني (في قنديل) لملء الفراغ عبر "قوات حماية الشعب"، وبرضا من نظامي الأسد وإيران، وهو ما وقع.
اعتقدت أنقرة أنّ سورية ستكون بيئة خصبة لهجرة معاكسة لمقاتلي "العمّال الكردستاني" من الشمال إلى الجنوب، بعد أن كان منطلقاً لهم، ورأت أنّ ذلك يعزّز أمنها القومي استراتيجياً، وراقبت، بشكل غريب، تنظيم هذه القوات نفسها، وإنشاءها أذرعاً سياسية، ثم خدمية إدارية من دون أي رد فعل مؤثر لتعطيله. ومع مرور الوقت، نشأ اقتصاد حرب، ونشأت معه طبقة مستفيدة تضم رجال أمن أتراكاً وفاعلين محليين من قادة فصائل ومتنفّذين، فأصبحت مناطق المعارضة تدرّ ملايين الدولارات يومياً على هذه الطبقة التي رسمت صورة وردية لهذه المناطق لدى القيادة التركية خلاف الواقع.
خطوات إعادة العلاقات بين تركيا ونظام الأسد مصلحة عامة للأسد والرئيسين التركي أردوغان والروسي بوتين الذي أعطى أردوغان صفة منقذ العالم من الجوع، برعايته اتفاق تصدير الحبوب من أوكرانيا، وهذا امتياز لا بد من دفع ثمنه في عدة ملفات، وربما الملف السوري أحد أهمّها، كما تتوقف على عوامل داخلية تركية أهمها: اتفاق الطاولة السداسية للمعارضة التركية على مرشّح وحيد لخوض الانتخابات في مواجهة أردوغان من عدمه، وقد نشهد تغييراً درامياً في الموقف حال جرى ذلك.
في كلّ حال، مسلسل التطبيع مع نظام الأسد مقنّن بدرجة لا تؤدّي إلى إنقاذ هذا النظام وتعويمه، مثل العقوبات التي أنهكته ولم تسقطه. وعلى هذا الأساس، تدور سياسات جميع القوى المتضرّرة مصالحها مما يحدث في سورية، والتي لن تنتظر إلى الأبد القرار الأميركي حيال نظام الأسد الذي لم يأت، ويبدو أنه لن يأتي، ويتمحور الوجود الأميركي في سورية بشأن نقطتين رئيسيتين، محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) وحماية "قوات حماية الشعب" ومناصريها من مذبحة ما داخلية أو خارجية. وفي هذا السياق، تجدر الإشارة الى أن الموقفين السعودي الرسمي (المعلن على الأقل) والقطري غير معنيين في المدى المنظور بإعادة العلاقات السياسية مع النظام، وهذا يجب الاستفادة منه وتطويره للصالح العام.
المقلق في كلّ التصريحات التركية تركيز أنقرة على أن هدف اللقاءات مع النظام إعادة اللاجئين إلى سورية، ولكن لا نعرف إلى أين سيعادون؟ إلى بيوتهم ومناطقهم التي هجّروا منها وهذا مستحيل، أم إلى مناطق سيطرة المعارضة، بخاصة البلدات والمدن الحدودية ذات الكثافة الكردية؟ وهذا إن حصل سنكون أمام قنبلة موقوتة ستفجّر المجتمع السوري، ولن تسلم المنطقة وتركيا من شظاياها في أي حال، وتوقع أنها ستكون بداية لسلسة من أحداث العنف العابرة للحدود لن تتوقف سنوات.
في الأثناء، على جمهور الثورة السورية في الداخل تنظيم صفوفه، والتفكير بخطوات عملية لعرقلة مسلسل التطبيع التركي مع نظام الأسد وتأخيره قدر الإمكان، والانتقال من مجرد التظاهر إلى التهديد بقطع الطرقات الدولية في حال فتحت، ومنع أيّ قوافل تعبر من خلالها ما لم تكن هناك خطوات عملية جدّية من قبيل إطلاق سراح المعتقلين ومعرفة مصير المختفين قسرياً، ويمكن تطوير قائمة الطلبات، وفرض رسوم على القوافل التجارية يذهب ريعُه إلى صندوق يعنى بتنمية المناطق خارج سلطة النظام، تحت إشراف مجالس محلية منتخبة بشكل نزيه ومستقل.
إذا أراد السوريون إحداث زلزال سياسي عليهم فتح حوار مباشر وجريء بين الفاعلين المحليين في مناطق سيطرة المعارضة و"الإدارة الذاتية"، وبرعاية أطراف ذات ثقة لدى الطرفين، قد تكون كردستان العراق، في حال وفّرت واشنطن مظلّة له، بهدف الوصول إلى صيغة تفاهم مشتركة، تؤدّي إلى اتحاد طرفي الجغرافيا الخارجة عن سيطرة النظام بشكل كلي أو جزئي، انطلاقاً من الحدود السورية العراقية شرقاً، في مناطق الجزيرة السورية، وصولاً إلى إدلب وريف حماة الشمالي الشرقي، مروراً ببلدات شمال حلب وشرقها وأريافهما على طول الحدود مع تركيا. ويحاذي هذا الاتحاد في منطقة جغرافية غنية بالموارد الطبيعية ومتنوعة زراعياً وصناعياً، وواسع المساحة، دولتين تشكّلان بعداً استراتيجياً وممرّاً لكلّ أنواع الدعم والتجارة، وبوّابته للتواصل مع العالم. ومن شأنه أن يشكّل ضغطاً هائلاً على المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، مع الأخذ بالاعتبار وجوده الهشّ في درعا والسويداء التي تستطيع الخروج عن سيطرته في أي لحظة. وبالتالي، سيكون هناك ضغط مزدوج أيضاً من خاصرته الجنوبية، مع إمكانية تطوير التنسيق بين القوى في كلّ هذه المناطق، لتوحيد خطواتها وفق مشروعٍ يُتفق عليه يحفظ للجميع مصالحهم، يبدأ بالبناء على المشتركات، وأهمها تغيير النظام وإقامة دولة المواطنة وتوزيع عادل للثروة على جميع أبنائه. ويأخذ بالاعتبار طمأنة تركيا وتبديد مخاوفها بضمانات جدّية مع الاستفادة من العمق العربي الرافض للتطبيع مع النظام، كالعربية السعودية وقطر والكويت، وبغطاء أميركي غربي، حينها يمكن أن تتغير كل المعطيات لصالح القوى المناهضة لنظام الأسد.
إلى حينه، أفضل قرار يمكن أن تتّخذه المعارضة الرسمية، في هذه الأثناء، قرارها بحل نفسها بجميع هيئاتها ومؤسساتها وإعلان انتهاء مشاركتها رسمياً في المسارات التفاوضية المختلفة، وإعادة القرار إلى الشارع الذي بدأت منه الاحتجاجات، وليذهب المجتمع الدولي إلى البحث عن عناوين لقادة هذا الشارع، ليتفاوض معهم.
المصدر: العربي الجديد