عبد الناصر العايد
شكلت الحرب الروسية على أوكرانيا الحدث الدولي الأبرز خلال السنة الماضية، وستتصدر الأخبار في سنتنا هذه ما لم يتطور الصراع في بحر الصين الجنوبي بين تايوان والصين، إذ ليس بين الصراعات القائمة أو المحتملة ما يتفوق في الأهمية على الحرب التي صارت فعلياً بين حلف الناتو وروسيا الاتحادية، وعلى وقعها سيتطور الكثير من مسارات العلاقات الدولية، أو يتغير على نحو طويل المدى.
إن استمرار الحرب في فصلي الشتاء والربيع، أمر شبه محسوم، وفق المعطيات الحالية، فطَعم النصر على بعض الجبهات ما زال تحت أضراس القادة الأوكرانيين، والأسلحة تتدفق عليهم بمستويات أعلى وطرازات أحدث وأبعد مدى، والدعم الغربي لها يتأكد ويترسخ يوماً بعد آخر. أما روسيا فما زالت تحتفظ باحتياطي قوة هائل، من المقاتلين والأسلحة، وهي تستطيع أن تُغرق أوكرانيا به من وجهة نظر قادتها، كما أنها ما زالت تحتفظ بحلفاء بارزين على مستوى العالم، مثل الصين والهند وتركيا، وجميعها لم تنضم إلى حملة العقوبات الغربية بشكل صريح، وذلك كله يشجع الطرفين على مواصلة القتال.
تشير تعزيزات الأوكرانيين، وإلحاحهم في طلب مزيد من الأسلحة من الغرب، على نيتها الصمود أو شنّ عمليات لاستعادة الأراضي الواقعة الآن تحت السيطرة الروسية. فيما تدل تحركات الروس في السماء التي تستهدف منها كامل البنية التحتية الحيوية الأوكرانية، وعمليات الحشد والتعبئة في داخل روسيا وعلى الحدود الأوكرانية وفي بيلاروسيا، إلى نيتها شن هجوم واسع ما أن ينحسر الثلج، وربما قبل ذلك.
العملية الروسية المتوقعة سيكون هدفها بالتأكيد إسقاط حكومة زيلينسكي وتعيين حكومة جديدة موالية لروسيا، وهذا الهدف لا يتحقق سوى بواحدة من ثلاثة أنواع من العمليات: الاستمرار في نهج ما يزعم بوتين أنه عملية خاصة، ومهاجمة العاصمة كييف بعنف وشراسة أكبر لإسقاطها؛ أو اطلاق عملية اجتياح واسعة النطاق بأعداد كبيرة من الجنود والآليات من الشرق والشمال مع عمليات إنزال كبيرة جداً خلف خطوط الخصم واحتلال كل الأراضي الاوكرانية؛ أو الذهاب إلى حافة الهاوية وتحدي الغرب باستخدام أسلحة دمار شامل مثل الأسلحة الكيمياوية على نطاق محدود أو التهديد بمواجهة نووية.
من ناحيته يستطيع زيلينسكي وجيشه أن يعزز دفاعاته بمزيد من الأسلحة الدفاعية المتطورة، وأن يستفيد بشكل أوسع من الدعم الاستخباراتي الغربي لقطع الطريق على أي موجات هجوم ومنعها من التبلور وسحقه. لكن جيشه يعاني قلة عدد المقاتلين مقارنة بخصومهم، كما يعاني خطر التوسع المفرط للقوات والتسبب في هشاشتها فيما لو فتحت روسيا جبهات على طول خطوط التماس وعلى الحدود مع بيلاروسيا. وفي الوقت نفسه، يكابد الروس معضلات جمة في عملهم المحتمل، على رأسها الخرق في الأمن المعلوماتي والضعف في الحرب الالكترونية التي تجعل تحركاتهم مكشوفة تماماً لخصومهم.
ويمكن لسياق الحرب أن يتأثر أيضاً بمعطيات من خارجه، لا سيما في ظل الصراع الاقتصادي الصيني الأميركي الذي قد يؤدي في لحظة ما إلى انهيار الاقتصاد العالمي برمته، كما أن أوروبا التي يمثل نقص الطاقة فيها نقطة ضعف في الجانب الغربي، يمكن أن تتفاقم أزمتها ربما جراء الاضطرابات الاقتصادية أو الظروف الجوية او غيرها من المعطيات التي لم تؤخذ في الحسبان.
إن سيناريو احتلال أوكرانيا بالكامل من قبل روسيا ليس مستبعداً، فواشنطن يمكن أن تتسامح معه إذا كان مُكلفاً، فهدفها الاستراتيجي ليس هزيمة روسيا عسكرياً بل إغراقها في صراع إقليمي، واستنزاف قدراتها لزمن طويل. إذ أن الاوكرانيين لن يتراجعوا بعد سنة من القتال الضاري، حتى لو سقطت كييف، وسيواصلون الحرب بطريقة حرب العصابات، وسيستمر الدعم الغربي لهم أيضاً، اذا تقع على حدود أوكرانيا أربع من دول حلف الناتو، التي يمكنها أن تكون ملاذات آمنة للمقاتلين الأوكرانيين، وسيواصلون حربهم بطرق قد تكون أكثر فاعلية مما يتبعونه اليوم، وحينها قد يكون سيناريو المستنقع الأفغاني الذي وقعت فيه القوات السوفياتية أدنى بكثير من ذاك الأوكراني.
إن الفرصة الوحيدة لوضع حد لهذا الصراع تنحصر في قرار جريء لبوتين بالتوقف، وهذا ما لن يفعله إلا في لحظة انتصار ما، خلال الأشهر المقبلة، لتبدأ بعدها عملية سياسية لا رابح فيها ولا خاسر. من دون ذلك، ستصبح القضية الأوكرانية واحدة من الحروب "اللا منتهية"، التي تخصَّص لها الموارد والنفقات والتضحيات بشكل روتيني ودائم.
أما بالنسبة لانعكاسات هذه الحرب على منطقة الشرق الأوسط، فإنها في مستواها الحالي حرب لن تغير التوازنات أو الاحتمالات في منطقتنا، بما فيها الميدان السوري الأكثر ارتباطاً بروسيا. لكن، في حال انزلق الصراع ليصبح مواجهة عالمية، أو انهار النظام الاقتصادي العالمي على خلفية توسعه دبلوماسياً ليشمل الصين، فإن الديناميات وعمليات الاصطفاف الكبرى ستنعكس فوراً في قلب الشرق الأوسط ودُوله، وحينها سيكون على تلك الدول أن تتصرف بأقصى درجات الواقعية والحذر، فالظرف حينها سيكون زمن تشكل نظام عالمي جديد وكامل، والعرب تقول: إن تغيَّرت الدول... احفظ رأسك!
المصدر: المدن