وجيه قانصو
تَصدُّرُ حجاب المرأة في إيران شعارات الاحتجاج اليومية، والمجاهرة برفض أن يكون لباساً ملزماً بقوة القانون أو إكراه السلطة، يستعيد في العمق مشكلة قديمة وجديدة في آن حول تحديث المجتمعات الإسلامية والعربية وتأمين شروط قابلية هذه المجتمعات للدخول في الحداثة. هي مشكلة لا تقتصر على النقاش الفكري والقناعات الفردية، بل تتصل بالتحولات المجتمعية وخياراتها التاريخية في مرجعيات تفكيرها وأخلاقيات سلوكها. هي تحولات لا يمكن رصدها أو معاينتها بنحو مباشر، بحكم أنها ليست ظاهرة بسيطة أو محسوسة، بل مركبة وغير مرئية وممتدة زمنياً، لا تُلتقط إلا عبر مؤشرات تطفو على السطح، تكون بمثابة دوال على تدفق باطني مقتحم ينزع بالمجتمع إلى الانتقال إلى وضع جديد.
والمقصود بالحداثة هنا في أبسط تعريفاتها وفق ما ذكره هيغل وماكس فيبر هايدغر وهابرماس، بأنها عقلنة الوعي والسلوك على المستوى الفردي والعام. والعقلنة هنا ليست العقل في بناه المنطقية وحتمياته الرياضية فحسب، بل هي تقدير محسوب للسلوك والنشاط والعلاقات مُدعَّم بشواهد الخبرة وتأييدات التجربة. هذه الحداثة جسدت القطيعة التاريخية مع الماضي الذي تهيمن فيه التقاليد والعقائد ذات النسق الشمولي المغمس بالأسطورة، وأسست لحاضر جديد يُلزم بضرورة التقدم والذاتية الفردية وحريتها وفاعليتها القائمة على سيادة العقل واختراقه لكل مجالات الحياة. بالتالي أزالت السحر عن العالم وحولته إلى مادة قابلة للإدراك والتحويل والتنبوء.
الكلام عن مشكلات الحداثة وإخفاقاتها لا مكان له في هذه المقالة. فهو لا يصح إلا ممن عاش اختبارات الحداثة وخاض مغامراتها، حيث لكل تجربة عوارضها ومآزقها صعودها وهبوطها وحتى كوارثها. أما أن يُحكم عليها من خارجها استناداً إلى شواهد سلبية ممن اختبرها من داخلها لتسويغ رفضها، فهذا رفض لشيء لا يملكه رافض الحداثة، لأنه لم يمارسها ولم يدخل غمارها، بل جل ما يفعله هو أنه يكرس عزلة بإسم الأصالة والاستقلال الفكري.
الحداثة التي يدور الكلام عنها هنا، هي مراحل تلقي الإيرانيين للحداثة، واستيعابهم لمقترحاتها الفكرية وأصولها الفلسفية، التي ظلت حاضرة وراء تقلبات الحداثة المتعددة وتحولاتها التاريخية المتعاقبة ومآلاتها الراهنة. بالتالي لا نتكلم عن الحداثة كظاهرة حصلت في مكان خارج مجالنا الجغرافي، بل عن حضور الحداثة في المجتمعات المسلمة، بخاصة في إيران، سواء أكان في صور تمثلها والموقف منها، أو في محاولات تأسيسها وترسيخها.
يمكن القول أن فكرة الحداثة مرت في إيران بثلاثة أطوار أساسية:
أولها مسعى توفيقي يهدف إلى مواءمة الوافد الغربي مع المرجعية الإسلامية. هي مواءمة تقوم على استراتيجية هضم مكتسبات الحداثة وتأسيس مقبولية إسلامية لها، بإرجاع كلياتها المعرفية والأخلاقية إلى أصول إسلامية، مع إظهار آفاق الفكر الإسلامي الحداثوية، أي الجمع بين الأصيل والدخيل، مثلما فعل جمال الدين الأفغاني والنائيني. بيد أن هذا المسعى كان عائماً فوق صفائح متجذرة وصلبة من البنى التقليدية لم يستطع اختراقها أو تحويلها. ما فعله هؤلاء، أنهم تلقّوا الحداثة بذهنية قروسيطية متوارثة، فكان أقصى ما أنجز هؤلاء هو أنهم جاوروا بين مرجعيتين: المرجعية الإسلامية والمرجعية الحداثوية، من دون إحداث تفاعل متبادل بينهما.
ثانيها الاتجاه الحداثوي الذي مثلت الثورة الدستورية أهم طلائعها. وهو اتجاه انحاز إلى الحداثة الغربية بكل مندرجاتها، ورأى فيها مدخلاً للحرية السياسية والمبادرة الفردية وبناء الذهنية العلمية. هذا الاتجاه ترك أثره في مناحي الفكر الديني بتكرار الدعوة إلى فصل الدين عن الدولة، وبناء الدولة على أسس علمانية خالصة.
تلقف الشاه رضا بهلوي الثورة الدستورية في العام 1925 لتحديث إيران، إلا أنه فرض علمانية قاسية ومعادية لكثير من المسلكيات الإسلامية، وحوَّل الحكم إلى ملكية مطلقة، تدين في استمرارها واستقرارها للمعسكر الغربي. لذلك فشل هذا الاتجاه في إنتاج مجالٍ معرفيٍ مستقلٍ داخل إيران، وظل فكراً وافداً وضيفاً على موائد المتفكرين والباحثين، وكان تداول مقولاتها مثل الحرية، أشبه بشعارات شعبوية أملتها الرغبة بالتحرر من الاستعمار وبناء حكم تمثيلي بديل عن حكم الاستبداد. نتيجة لذلك، جاءت الحداثة إلى إيران في مطلع القرن العشرين منفصلة عن شروطها المادية التي لم يختبرها الإيرانيون، فتلقوها أفكاراً مجردة وبوضعية مادية ملتبسة بسبب اقترانها بالاحتلال والتوسع من جهة، وبالمَلَكِيَّة المطلقة من جهة أخرى.
ثالثها هو الاتجاه الإسلامي، الذي كان في جزء منه رد فعل على الحداثة المقترنة بالاستعمار، والنظر إليها بصفتها ذلك المنتج الغربي المتفوق والمتجبر وحتى الشيطاني الذي ما فتئ يفرض على المسلمين سياقاته الفكرية ويأسرهم برهاناته التاريخية. وكان في جزء آخر اعتماد الأصول الإسلامية أرضية ومرتكزاً لكل بناء حديث ومعاصر، مع ادعاء أن الإسلام يحمل صفة المنظومة المتكاملة والشاملة التي تتسع جميع جوانب الحياة، والقادرة على تأمين الرفاه والأمن والطمأنينة لإنسان العصر الحائر.
استطاع هذا التيار الوصول إلى السلطة، كتعبير عن رفض التبعية للغرب وبدافع إسقاط الاستبداد المدعوم من الغرب أيضاً. إلا أنه وبدلاً من استعادة رهانات الثورة الدستورية ذات الصلة بالحرية والتمثيل، وفك الإلتباس المزمن بين الحداثة والاستعمار، عمد النظام الجديد إلى تأكيد الوصل بينهما، واعتبار الديمقراطية والليبرالية من تسربات الغرب المتآمر الذي لا يمكن صده إلا بتأسيس مشروعية سياسية جديدة، لا تختلف عن النظم الغربية في الشكل فحسب، بل تناقضها في تأسيساتها الفلسفية ومرجعياتها الفكرية. فكانت ولاية الفقيه المطلقة التي أعادت تأسيس الاستبداد المطلق تحت غطاء الدين، وقمع الحريات والمبادرات الفردية تحت غطاء محاربة الشيطان الأكبر.
هذه المقولة، أي ولاية الفقيه المطلقة، لا تحمل نظرية حكم بقدر ما تشد المجتمع إلى أصل الإمامة، الذي هو نقطة ارتكاز المذهب الشيعي الإثني عشري. بالتالي فإن غرضها فرض عزلة ثقافية وهوياتية فاصلة بين المجتمع الإيراني ومحيطه الخارجي بالأخص المجال الغربي، وإعادة الاعتبار للإرث الديني بكل مخزونه الأسطوري وطاقته التعبوية. ما تسبب باصطناع طبقة اجتماعية جديدة هي طبقة رجال الدين، الذين باتوا يملكون قدرات وموارد مهمة لإعادة إنتاج الوعي الإيراني وفق هندسة عقائدية خاصة، ويملكون أيضاً صلاحيات ونفوذاً واسعين للتحكم بأي نشاط مجتمعي، بالتالي القدرة على تعطيل أية دينامية ذاتية تنتجها قوى المجتمع في مجال الإنتاج والثقافة والعلاقات.
الجديد في الحراك الإيراني الأخير، ليس جرأته على تحدي النظام فحسب، بل اصطدامه مع القيم وتحديه للمرجعيات التي عمد النظام إلى استدعائها ليقيم عليها شرعيته ومسوغات بقائه، أي اصطدامه مع الإسلام التقليدي، بنسخته الإمامية المنجزة فقهيا والمكتملة عقائديا. بالتالي ظهرت رغبة مجتمعية غير مسبوقة لا إلى استعادة اصل مفقود أو قيمة دينية منتهكة، بل إلى القفز فوق الموروث كله وتجاوزه والعبور إلى منطقة انتظام جديدة بمرجعيات جديدة وصياغات مبتكرة.
ولعل ما يميز الحراك الإيراني الحالي عن الثورات العربية الأخيرة هو أن: الثورات العربية ظلت تحت سقف التقليد والتراث بل استعانت بطاقتهما التعبوية والتحريضية لإسقاط الحاكم، ولم تكن تحمل معها سردية جديدة، أو حتى رغبة بالإنتقال إلى وضعية مناقضة أو معدلة للمرجعيات الفكرية والقيمية الحاكمة، وهو ما أوقعها من جديد في أسر الاستبداد والحرية المقموعة والإقتصاد المتهالك. أما الحراك الإيراني الحالي فيحمل قوة دفع جريئة باتجاه تجاوز معضلة الهوية المهددة، واتجاه التخلي عن الأصل المفقود والركن الضائع، واتجاه تأسيس انتظام عام لا يستقي معناه أو حقائقه من النص الديني، بل من آفاق وتطلعات جديدة غير مسبوقة كشف عنها الحراك الأخير.
ما يحصل في إيران حراك ذو تطلعات مستقبلية خالصة، حراك يميل إلى تصفية حساب معقلنة مع ماضيه وإرثه، والتحرر من ويلات تداولهما الفوضوي واستدعائهما الغوغائي. حراك يعبر عن رغبة مجتمعية واعدة باستعادة مغامرة الحداثة والتحديث، لكن هذه المرة من خارج الاستقطابات والثنائيات الخادعة والأضداد الوهمية التي برع النظام الإيراني الحالي في ابتكارها واللعب على وترها. حداثة تقوم على حرية تستقي مشروعيتها من ذاتها، وتعيد تأسيس وتأويل كل ما عداها وفق ما تمليه حقيقتها ومعناها.
المصدر: المدن