محمود علوش
على مدى عقود من الشراكة الطويلة بين تركيا والولايات المتحدة، لم تكن العلاقات بين الطرفين مستقرة تماماً، لكنّها لم تشهد هذا القدر من التوتر الذي وصلته في السنوات الأخيرة. كبلدين يختلفان في كل شيء تقريباً وتسود بينهما حالة من انعدام الثقة إزاء بعضهما البعض في سياساتهما الأمنية والخارجية، فإن عودة الشراكة إلى ما كانت عليه في السابق اعتقاد يصعب تصوره في المستقبل المنظور. مع ذلك، لا يزال كل منهما بحاجة إلى الآخر في بعض المجالات الحيوية. رغم أن الشراكة التي دخلتها تركيا مع روسيا بعد منتصف العقد الماضي، شكلت سبباً رئيسياً لتوتر علاقاتها بالغرب، إلآّ أنها لا تزال عضواً حيوياً في حلف الناتو ومنافسة قوية لروسيا في منطقة أوراسيا والشرق الأوسط وشمال إفريقيا. من هذا المنظور، فإن أهميتها بالنسبة للولايات المتحدة تزايدت أكثر من أي وقت مضى. في المقابل، لا تزال أنقرة تنظر إلى هويتها الأطلسية على أنها حاجة لها للحفاظ على مصالحها الاقتصادية والأمنية مع الغرب ولتحقيق توازن في الشراكة مع روسيا. بهذا المعنى، فإن الحفاظ على حد مؤثر من الشراكة بين أنقرة وواشنطن، لا يزال حاجة لكليهما بغض النظر عن الهوة الجيوسياسية المتنامية بينهما.
في حين أن المسار المضطرب الذي سلكته العلاقات في السنوات الأخيرة أضعف قيمة الشراكة الثنائية وأثار تساؤلاً جوهرياً حول مستقبلها، فإن الحرب الروسية الأوكرانية قدّمت للبلدين فرصة لم تكن محسوبة لتصحيح مسار الشراكة وإعادة تشكيلها على قاعدة جديدة تعود بالنفع على الطرفين. هنالك بعض المؤشرات الإيجابية التي طرأت على العلاقات بعد الحرب، كتعافS جزئي للتواصل على مستوى القادة بين الرئيسين أردوغان وبايدن، وإطلاق لجنة مشتركة لمعالجة القضايا الخلافية. وقد أثمرت هذه اللجنة بعض التقدم الملحوظ في قضية إخراج تركيا من مشروع تصنيع مقاتلات إف خمسة وثلاثين كإقدام واشنطن على إزالة العقبات التي تُقيد مشروع بيع مقاتلات إف ستة عشر لأنقرة. ويرجع هذا التقدم بشكل رئيسي إلى الدور المهم الذي تلعبه أنقرة كوسيط لتهدئة الصراع الروسي الأوكراني ونجاحها في رعاية اتفاقية الحبوب التي حدّت من مخاطر أزمة غذاء عالمية، فضلاً عن تسهيل قنوات التواصل الاستخبارية بين موسكو وواشنطن للحد من مخاطر اندلاع صراع نووي. لم تنجح واشنطن في دفع أنقرة إلى الانخراط في الجهود الغربية لعزل روسيا، لكنّ موقفها المتوازن أثبت أنّه مصلحة للولايات المتحدة والغرب في بعض الأحيان.
بينما استطاعت أنقرة وواشنطن إدارة خلافاتهما بشكل معقول في المسائل العسكرية وتهدئة التوترات الثنائية بشكل جزئي بخصوص خلافاتهما بشأن اليونان، إلآّ أنهما لا تزالا عاجزتين عن وضع خريطة طريق لحل الأزمة بينهما بخصوص وحدات حماية الشعب. وأدت العمليات العسكرية التركية الأخيرة ضد حزب العمال الكردستاني في شمالي العراق وفرعه السوري إلى تأجيج التوتر من جديد في هذه المسألة. ومن المرجح أن يتفاقم هذا التوتر بشكل أكبر في حال قررت تركيا المضي في خطط العملية العسكرية البرية في شمالي سوريا. سعت واشنطن في الأسابيع الأخيرة إلى تحذير أنقرة من مغبة العملية البرية، لكنّها لم تُقدم بديلاً مقنعاً لتركيا يُمكن أن يُثنيها عن هذه العملية. حقيقة أن إدارة الرئيس جو بايدن كبّلت نفسها بسقف مرتفع من الالتزام بحماية العلاقة مع الوحدات على عكس إدارتي ترامب وأوباما اللتين سعتا أكثر من مرّة إلى التفاوض مع أنقرة في هذه المسألة. علاوة على ذلك، فإن عدم تفكير إدارة بايدن بعواقب مواصلة نهجها في قضية الوحدات الكردية على موقف تركيا في سوريا يُساهم في دفع أنقرة إلى تبني خيارات مُضرة بالمصالح الأميركية والغربية في سوريا على المدى البعيد.
كنتيجة لعجز أنقرة في إقناع واشنطن بالتخلي عن علاقتها بالوحدات الكردية، تلجأ بشكل متزايد إلى روسيا التي أقنعتها بضرورة الانفتاح على الحوار مع النظام السوري من أجل تعاون أمني مشترك ضد الوحدات. من شأن تحول الموقف التركي من الأسد أن يُضعف الأوراق المتبقية للولايات المتحدة في سوريا. كما أن مزيداً من الانجراف التركي نحو تعميق الشراكة مع روسيا يجعل أنقرة تنظر بفوائد أكبر لقيمة الشراكة الجيوسياسية مع موسكو في السياسات الخارجية. في حين أن تركيا لا تزال على نهجها المتوازن في الصراع الروسي الأوكراني، فإن إظهار التحدي الأميركي لاحتياجاتها الأمنية في سوريا يُضر بشكل كبير في جهود الوحدة الأطلسية. من الواضح أن أردوغان يستثمر في مسألة توسيع الناتو لفترة أطول من أجل دفع الدول الغربية إلى تبني موقف يراعي الهواجس الأمنية التركية في سوريا. تسعى واشنطن إلى الحد من التوترات مع أنقرة لكنها لم تُظهر بعد تحوّلاً في علاقتها بالوحدات الكردية. إذا كانت واشنطن ترغب بتوسيع الناتو من أجل الحد من المخاطر الروسية المتزايدة على أعضاء الحلف، فإنه لا يمكنها تجاهل مخاطر أخرى تُضر بحليف آخر في الناتو.
لا يزال المسؤولون الأميركيون يرفضون حقيقة أن الوحدات الكردية هي الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني ويتعاملون باستخفاف مع مخاطر إدارة ذاتية على حدود تركيا الجنوبية يُديرها فعلياً حزب العمال الكردستاني. هذا التجاهل لهذه الحقيقة لن يؤدي سوى لمزيد من إفساد العلاقة مع أنقرة. لم تعد الولايات المتحدة تمتلك أدوات مؤثرة في سوريا لثني تركيا عن تصعيد زخم صراعها مع الوحدات الكردية، كما أن وجودها العسكري المتواضع يضعف من قيمته الاستراتيجية. للخروج من هذه المعضلة، يتعين على إدارة ترامب الاستماع إلى النصائح التي قدمها جيمس جيفري السفير الأميركي السابق لدى أنقرة والمبعوث الأميركي السابق للتحالف الدولي عندما اقترح في مقال له في موقع فورين بوليسي مؤخراً أن تتعاطى واشنطن بجدية أكبر مع الهواجس التركية إزاء الوحدات الكردية. يحث جيفري واشنطن على البناء على الترتيبات الثلاثية السابقة مع تركيا والوحدات الكردية لوضع عرض حقيقي على الطاولة يُجنب خيار العملية البرية التركية. مطالب تركيا الفورية هي أن تنسحب الوحدات الكردية من المناطق الحدودية مع تركيا ومن مناطق أخرى كتل رفعت. في عام 2016، التزمت الولايات المتحدة - بما في ذلك بايدن نفسه الذي كان يشغل في تلك الفترة منصب نائب الرئيس ـ بضمان انسحاب الوحدات عبر نهر الفرات. لكنّه بعد ذلك، فشلت إدارة أوباما في متابعة الالتزام. وبعد ذلك، تفاوضت إدارة ترامب على انسحاب للوحدات من منبج، ولم ينجح إلا جزئيًا بسبب تعنت الوحدات الكردية. يُمكن للتفاوض بين أنقرة وواشنطن من جديد أن يُساعد البلدين في التوصل إلى مقاربة جديدة بشأن الوحدات الكردية تحد من المخاطر المتزايدة على العلاقات التركية الأميركية.
المصدر: تلفزيون سوريا