حسان الأسود
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية بدا وكأنّ الأوروبيين والأميركيين والغرب عموماً قد أرسوا فكرة نقل الحروب خارج دولهم، وتعزز الأمرُ مع انهيار الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، ونشأ لدى بعضهم، وخاصّة الألمان والفرنسيين، أي قاطرة الاتحاد الأوروبي، إحساسٌ بإمكانية احتواء الروس من خلال الشراكة الاقتصادية. انعكست هذه الرؤية، المعزّزة بشيء من الثقة بتفوّق حضاري يجعل أصحابه قادرين على التفاهم بغير لغة العنف، على مسارات عديدة تخطّت حدود الاقتصاد، من مثل مصادر الطاقة والتصنيع وتبادل البضائع.. لتصل إلى حدود التكامل الذي بدأ يقوّض أفكار الأمن القومي القديمة. كانت ثقة الأوروبيين بأنفسهم كبيرة بانعدام احتمال خرق تفاهم الـ (Gentlemen Agreements) هذا مع الروس، حتى أتت الفأس الروسية في الرأس الأوكرانية.
ثمّة لحظات مفصلّية في تاريخ البشر، منها الخاص ومنها العام، ويتداخل أحياناً كثيرة هذا بذاك، فمولد الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم لم يُؤخذ به مثلاً بدءاً للتأريخ الإسلامي رغم أهميّته القصوى لدى المسلمين، واستُعيض عنه بالتأريخ من يوم الهجرة من مكّة المكرّمة إلى المدينة المنوّرة. انهيار امبراطوريات ونشوء غيرها، سقوط مدن وحضارات واندثارها أو قيام أخرى وازهارها قد لا يشكّل حدثاً يجعل البشرية تتوافق على اعتباره مفصلاً في التاريخ، ففكرة التحقيب الزمني هي اختراعات بشرية لتسهيل التصنيف الذي يحتاج إليه عقل الإنسان كي يُبقي على ترتيب أولوياته. وبعض الأحداث تكون فاصلة في حياة ملايين البشر مثل الحربين العالميتين، أو مثل انهيار الكتلة الشرقية وسقوط جدار برلين، وبعضها ينقل كتلاً بشرية كبرى للتفكير بطرقٍ مغايرة، فينسف فلسفة ويُحيي أخرى مكانها، مثل الحرب الروسية على أوكرانيا.
في هذه الحرب ثبتت أكثر فأكثر قواعد تاريخيّة قديمة، يختصرُ بعضَها المثلُ العربي الدارج (عدوّ جدّك ما بودّك)، فشقّة الخلاف العقدي الواسعة بين الكاثوليك والأرثوذوكس من جهة، وانعدام الثقة المتبادلة بين السلاف والجرمان والفرانك من جهة ثانية، جعلت كلُّها نسيانَ الماضي والحروب الدائرة في فضائه أمراً صعب المنال. يُضاف إلى ذلك بالطبع هذه العنجهية الكبيرة التي تعامل بها الأميركيون والأوروبيون الغربيون عموماً مع الروس بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، والتي تجلّت بنظريات انتصار الديمقراطية الليبرالية النهائي، تلك التي كانت محور كتاب فرانسيس فوكوياما (نهاية التاريخ والإنسان الأخير)، التي جادله بها بطبيعة الحال صاموئيل هنتنغتون في مقالته (صراع الحضارات)، مبيّناً أنّ الصراع لم ينته، بل تحوّل إلى صراع ثقافي بعد أن كان أيديولوجياً بين الرأسمالية والشيوعية. هذه النظرة المتعالية أيقظت الشعور القومي المتأجج أصلاً لدى الروس، فأنتجت قائداً استطاع – بنظر أبناء وطنه – أن يعيد لهم الكرامة الوطنية، بعد أنّ مرّغها السكير يلتسن بالوحل.
لاستعادة الروح الروسية المتوثّبة، ولاستنهاض الأمة الروسية من سباتها، بدأ بوتن بإعادة رسم الخريطة السياسية والتموضعات الجيوبوليتيكية لروسيا من خلال باب الأمن القومي. هكذا بدأ حروبه الخارجية التي كانت على الدوام في صلب العقيدة التوسعية الروسية منذ نشأة هذه الدولة القومية. كانت جميع الحروب السابقة على حرب أوكرانيا ضمن الحديقة الخلفية لروسيا والمعترف بها ضمناً من قبل الغرب، من الشيشان إلى جورجيا إلى القرم. وحتى سوريا لم تكن منذ ستينات القرن الماضي إلا ساحة من ساحات النفوذ الروسي، فما كان التدخل بها يشكل معضلة للغرب والأميركيين، بل على العكس، عمل هؤلاء على جعلها حقلاً موحلاً مثل أفغانستان وخاصرة نازفة تستهلك الروس سياسياً على الأقل، إن لم يكن عسكرياً واقتصادياً.
لكنّ أوكرانيا ليست كذلك، أو على الأقل لم تعد كذلك بنظر أهلها الذين أنجزوا استقلالهم النظري عام 1991، وبدؤوا استكمال خطواته الفعلية بشكل حثيث بعد الثورة البرتقالية عامي 2004 – 2005، إذ بدأت الدولة الأوكرانية ومن خلفها غالبية شعبية وازنة فلسفة جديدة، تنبع من ضرورة قطع العلاقة التاريخية بالروس وتنحو باتجاه بناء شراكة مع الغرب، والاندماج شيئاً فشيئاً ضمن محيطه الاقتصادي وفضاءاته السياسية والثقافية. هذا التحوّل الكبير في العقلية والمزاج والفلسفة الأوكرانية على مستوى الشعب بنخبه ومفكريه وعموم أفراده، وعلى مستوى الدولة وفلسفتها، لم يرُق للروس أبداً، خاصّة أنّ حلف الناتو لم يألُ جهداً بالتوسع شرقاً باتجاه الدول التي كانت سابقاً دائرة في الفلك الروسي. فكانت أوكرانيا خط الروس الأحمر الذي سبق أن أدرجوه في مفاوضات الاعتراف باستقلال أوكرانيا، والذي كان من أول بنودها وأهمها التخلي عن السلاح النووي الموجود على أراضيها لصالح الروس.
الآن، وبعد أن وجد الروس أنفسهم في مأزق كبير، تمثّل بالصمود البطولي للجيش الأوكراني مدعوماً من الغرب ومحمولاً على قاعدة شعبية كبيرة وثقة بالقيادة السياسية، وبعد أن بدأت علائم الهزيمة تتوضّح، وبعد أن تكشّفت محدودية القدرة العسكرية الروسية خارج حسابات الأسلحة النووية التي لا يمكن في الواقع استخدامها، وبعد أن خاب رجاؤهم بمساندة عسكرية صينية واضحة وأكيدة، ضاقت أمامهم خيارات التحالف، حتى إنهم اضطروا للاستعانة بالمسيّرات الإيرانية وبعض العتاد الإيراني المعروف بتخلّفه تكنولوجياً مقارنة بالسلاح والعتاد الغربيين.
بعد أن شاهد الأوروبيّون بأمّ العين المسيرات الإيرانية تضرب البنى التحتية الأوكرانية، فتحيل شتاء أوكرانيا القاسي أصلاً إلى صقيع مرعب، وبعد أن ثبت لهم وللأميركيين عمق التحالف الروسي الإيراني، اختلفت نبرة الحديث تجاه إيران، وبدأت أصواتٌ عالية تُسمع هنا وهناك عن اعتبارها راعية للإرهاب. لم يكن التدخّل في اليمن والعراق وسوريا ولبنان كافياً ليفهم الأوروبيون أنّ الشرّ القابع في سدّة الحكم في طهران سيصيبهم لاحقاً، أمّا الآن وقد بدأت النار تلتهم محطات توليد الكهرباء ومخازن الوقود الأوكرانية وتدمّر البنى التحتية الأوكرانية، فقد بات لزاماً عليهم إعادة النظر في سياساتهم تجاه طهران وحكّامها. لقد كان لافتاً تصريح وزير الخارجيّة اليمني قبل عدّة أيام عن تغيّرٍ ملموسٍ في المواقف الغربية من طهران، ما استدعى اليمن حثّ الحكومات الأوروبية على تصنيف ميليشيا الحوثي جماعة إرهابية، بعد أن كانت بنظرها إحدى المجموعات المحلية ذات المطالب المشروعة في تقاسم السلطة. لقد بدأ المشهد في إيران وروسيا يتغيّر، بفعل الثورة الشعبية المتنامية في الأولى، وبفعل الحماقة التي يبديها نظام الملالي بالتعامل معها خاصّة المحاكمات الصورية والإعدامات التي ينفذها بحق ناشطي الثورة، وبحكم مفاعيل الحرب وتدهور المعنويات وفقدان الثقة بالقيادة الروسية في الثانية. فهل يستفيد العرب من تغيير المزاج الغربي نحو إيران وروسيا؟ وهل يقطفون بعضاً من ثمار الحرب الروسية على أوكرانيا؟ هذا ما ستأتينا به الأيام.
المصدر: تلفزيون سوريا