ياسين الحاج صالح
خلال ما يقرب من 12 عاماً من الصراع، تدفقت السياسة من كل حدب وصوب في سوريا، وفاضت على أي أطر سياسية متاحة، بما فيها حدود البلد وحدود الدولة وأجهزتها، وحدود الجماعات الأهلية والمحلية، بل وحدود مداركنا، وحدود مفهوم السياسة ذاته. السياسة كفعل تمتنع حين ينبع ما هو سياسي من كل مكان، ويتورط فيه الإقليمي والدولي، فضلاً عن المحلي، والدول وما دونها وما فوقها، والأديان، والأزمنة، وكل ما يمكن تخيله من عنف (عدا النووي). وفي هذا ما يضفي على الصراع السوري تعقيداً نادراً يحتمل لإمعان النظر فيه أن يسهم في تجديد التفكير السياسي في مجالنا.
لدينا بداية الدولة بجيشها ومواردها الطرف الأساسي في الصراع الذي عرف الاحتجاج السلمي، بما في ذلك مظاهرات بعشرات الألوف ومئات الألوف. عرف بعد ذلك مقاومات مسلحة متنوعة، منها وليدة الصراع، ومنها أمهات صراع إن جاز التعبير، تولدت في سياق حروب أهلية في البلدان المجاورة (لبنان، العراق، تركيا)، أو في إطار الجهادية السنية المعولمة. هي أمهات صراع لأن لها وجوداً سابقاً للصراع السوري، ولأن منظوراتها من وجه آخر فوق دولتية، أي فوق سورية كذلك، وإن تكن هي ذاتها منظمات ما دون دولة. سوريا إطار عارض كثيراً أو قليلاً لدور حزب الله اللبناني وحزب العمال الكردستاني وتفرعات القاعدة بعد أفغانستان والعراق. ليس الأمر كذلك بخصوص المجموعات السورية التي قاتلت النظام. هذه بنات صراع بالأحرى.
غير الدولة ومنظمات ما دونها، الدين منخرط في الصراع ويوفر له لغته الصريحة ورمزياته ووعوده وعقيدته المعبئة. يتعلق الأمر بالإسلام السني بطبيعة الحال، وقد آل به الأمر لأن يكون القاعدة العقدية التي توفر نقطة التباعد الأقصى عن النظام والانفعال الجذري حياله. وهذا منبع مفارقة حادة في الثورة السورية تستحق تناولاً مستقلاً. ثم أن الإسلام الشيعي طرف مسلح في الصراع بقدر لا يتناسب مع الوزن السكاني للشيعة السوريين، أقل من 1٪ قبل الثورة. ولعل في ذلك ما يشرح الحاجة إلى رفد المزيات الشيعية بخطاب مقاومة جامع في مواجهة إسرائيل والغرب. ولأول مرة، ربما منذ الفتح الإسلامي قبل أربعة عشر قرناً، لدينا في سوريا ميليشيات مسيحية مسلحة تقاتل إلى جانب النظام (اشتهر من قادتها نابل العبدالله من السقيلبية وسيمون الوكيل من محردة)، ومن المرجح أن شارك مقاتلون من اليمين المسيحي اليوناني والفرنسي في سوريا إلى جانبهم كذلك.
الطوائف ليست فاعلين مفاجئين في «سوريا الأسد». لدينا طائفية مُطيِّفة هي طائفية الدولة، وطائفية مُطيَّفة، هي طائفيات فاعلة اجتماعياً، والاتجاه العام قبل الثورة هو نزوع الجماعات الأهلية المختلفة إلى التطيُّف، أي التشكل كوحدات سياسية. الطوائف تشكيلات اجتماعية ناقمة ومنتقمة، وسوريا تميزت بإنتاج واسع للنقمة والانتقام في السنوات الماضية. وما فعّل الطوائف فعّل العشائر كذلك، وقد تنافس عليها في أوقات مختلفة النظام والمعارضة الرسمية وداعش وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والأمريكيون.
ومن المكرور الإشارة إلى وجود الإيرانيين والأمريكيين والروسي والأتراك والإسرائيليين على الأراضي السورية، لكن هنا أيضاً ثمة مفارقة في تواجد خمس قوى نافذة في بلد واحد صغير: القوتان الامبراطوريتان الكبرييان في عالم اليوم، أمريكا وروسيا، وأكبر القوى الإقليمية التوسعية إسرائيل وإيران وتركيا، وكلها مسكونة بمخيلات امبراطورية، وبذاكرة امبراطورية قريبة أو بعيدة. وجه المفارقة أن الامبريالية التقليدية تتميز بتوسع مركز واحد أو عدد قليل من المراكز نحو مناطق شاسعة تفوق المتروبولات مساحة وسكاناً. ما لدينا هنا بالمقابل هو انتشار امبرياليات مركزية أو فرعية في بلد صغير.
ولعل من المناسب تسمية هذا الشرط النادر الامبريالية في بلد واحد، تيمناً بالاشتراكية في بلد واحد، مثلما نظّر لها بوخارين وستالين ومارسها الأخير. لكن اشتراكية ستالين كانت تتصالح مع واقع اضطراري بعد خيبة التوقعات بثورات اشتراكية أوروبية، وعلى خلفية تصور نظري بأن الاشتراكية لا تكون إلا عالمية. أما الامبريالية في بلد واحد فهي متصلة بخصائص الزمن الدولي والإقليمي الحالي من الحرب ضد الإرهاب والنزعة الدولانية وصعود الجينوقراطية (السياسات المتمركز حول الجينوس، العرق أو الإثنية أو الأهل، وليس حول الديموس، الشعب والمواطنين).
وإلى جانب الامبرياليات المتجسدة في دول، خبرنا في سوريا صعود «الامبرياليين المقهورين» ثم انحدارهم، أعني الإسلام السلفي الجهادي، المسكون بمنطق ومخيلة الفتح والتوسع والسيطرة، والذي لا ينازع الامبريالية من أجل المساواة أو الحرية، بل من أجل أن يحل محلها. وهذا ما يجرد مقاومته الحربية المقدامة من أي مضمون تحرري، بل وما ينحط بها إلى عدمية وإرهاب.
عرفنا خلال نحو دزينة من السنين كذلك كل مستويات العنف: الحرب والتعذيب والاغتصاب والمجزرة والإرهاب والتغييب. وشهدنا استخدام الطيران ضد المدن، ورمي البراميل المتفجرة فوق المناطق المدنية، والصواريخ البعيدة الأمد، والأسلحة الكيميائية.
وتكشف في سوريا أكثر من غيرها تغير تعريف الشر السياسي الأساسي أو «جريمة الجرائم»، لتصير هي الإرهاب، وليس الجينوسايد على ما هو مقرر في اتفاقية خاصة للأمم المتحدة عام 1948.
هذا التحول غير المصرح به تكرس بعد أيلول/سبتمبر 2001، وأسس لنظام دولي ضمني، دولاني، وملائم للأقوياء في كل مكان، مع منزع إسلاموفوبي أكيد. أسوأ من ذلك: قاد تشخيص الإرهاب بوصفه الشر السياسي الأساسي إلى التغطية على الجينوسايد في سوريا وعلى مجازر جينوسايدية في العراق.
أجندة الأقوياء هي أقوى الأجندات، وهي ما يتذرع به المحتلون الخمسة في سوريا.
ويحظى النظام بإقرار الحكومات الغربية بوصفه الشر الأدنى، بعد أن شخصت الإرهاب بوصفه شر الشرور، وبدعم اليمين الغربي الإسلاموفوبي الواعي جداً لتكوين النظام الطائفي، ومساندة اليسار التقليدي، الماضوي مثل اليمين. التروتسكيون والأناركيون خارج هذا الإجماع.
وفي سوريا كذلك خبرنا بصور مباشرة تجاور أزمنة لا يتوقع تجاورها. ثمة أولاً الزمن المهدوي الألفي للإسلام الشيعي، وبصورة ما نظيره السني الذي فكرت نسخته الداعشية بمعركة فاصلة تخاض في دابق، وفكر جيش سلام في أن الغوطة هي «فسطاط المسلمين» في المواجهة الفاصلة. ثم لدينا زمن الأبد الأسدي، وزمن القوى الامبراطورية التي تفكر بنفسها بمنطق القرون، أو الأبد كذلك في حال «روسيا الأبدية». وهذا وصولاً إلى الزمن اليومي للاجئين في الخيام، الذي لا يكادون يضمنون لقمة يومهم، ولا يسعهم التخطيط لغدهم. بنحو 90٪ من السوريين تحت خط الفقر، تمثل سوريا تجاوراً رهيبا بين زمني الأبد والزمن اليومي، ربما لا نظير آخر له في عالم اليوم. الغائب هو الزمن التاريخي كزمن للتوقع والتخطيط في سنوات مقبلة.
كل هذه السيولة التي بلا مفاصل ولا بنية سياسية لا نرى مثلها في بلدان كثيرة، بل لا نراها في معظم البلدان، نراها في سوريا بفعل تدفق قوى هائلة في بلد صغير، واندلاق أحشاء البلد بأثر ما شهد من عنف مهول.
وبقدر ما يبدو هذا مثيراً للنظر السياسي ومختبراً لا مثيل له للمعرفة السياسية في شأن عالم اليوم، فإنه يجعل السياسة كتوجه استراتيجي عقلاني لذات سياسية تعرف نفسها بدولة وشعب وأرض مستحيلاً. ليس هناك إطار وطني يمكنه استيعاب كل ذلك، وهذا من بين ما قوض الحزب السياسي الذي لا يستطيع في مثل هذه الشروط الفوضوية أن يطور تحليلاً عقلانياً يحيط بمنابع التدفق السياسي، أو يضع برنامجاً للتطبيق وتوجيه الممارسة، أو يعبئ ويكسب الأنصار والمحازبين.
والخلاصة أن السياسة التي تنبثق بغزارة من كل مكان طوال نحو اثني عشر عاماً هي ما تحكم باستحالة المستوى الذي كان يمكن أن يوحدها تحليلياً، ويستقطب جمهوراً وينظمه، ويسعى من أجل تغيير الواقع: الحزب السياسي.
المصدر: القدس العربي