أحمد مظهر سعدو
تُنتج الخيبات المتوالية، والهزائم المتتابعة على كل الصعد، التي طالت وتطول العرب، منذ عقود مضت، المزيد من الانتكاس وقلة الحيلة، والتملص من الهوية العامة التي تنتمي إليها شعوب العالم العربي، بل وكذلك الانسلاخ كلية عن بعض ماهيات البعد القومي العربي الذي طالما عاش فيه وعليه الكثير من أبناء الأوطان العربية، خلال عقود الخمسينيات والستينيات من القرن المنصرم.
لكن مونديال كأس العالم في قطر، وما جرى فيه وخلاله وقبله من انبثاقات هوياتية وحضارية فاق كل التوقعات، وأعاد لهذه الشعوب الكثير مما كان مطمورًا، والعديد من الذي كان قد ظن البعض أنه مضى وانقضى إلى غير رجعة. هذا المونديال بما فيه من استهداف مباشر للقيم التي يحملها العرب والمسلمون ودولة قطر خاصة، أفرز ووضح الكثير مما كان ليس ظاهرًا للعيان، ـوأعاد تمظهر بعض المسائل التي يبدو أن جذرها كان حضاريًا معرفيًا، وليس مجرد اقتناص للفرص، أو الكيل بمكيالين تجاه العرب، وقد جاءت انتصارات العرب الكروية ابتداءً من فوز السعودية على الأرجنتين، ثم توالي الفوز وتتابعه من قبل فريق المغرب العربي، وصولًا إلى ما وصل إليه من حلم لم يكن في الحسبان، وإعادة الهجوم على هذا التبوء من النصر، عبر بعض المتعصبين، حيث اتهمت صحيفة "تاز
" الألمانية المغرب بعد فوزه على البرتغال بمعاداة السامية بذريعة رفع لاعبي المنتخب المغربي للعلم الفلسطيني، وذلك بعد تأهلهم إلى نصف نهائي كأس العالم لكرة القدم التي تجري في دولة قطر.
حيث نوه مراسل الصحيفة (مارتين كراوس)، إلى أنه يجب أن "نفرح لمنتخب المغرب للمستوى الذي يظهره في المونديال"، لكنه تابع فقال: إن "إضافة لمسة معادية للسامية للفرح تجعل الأمور صعبة". وهذه المسألة تشير وبوضوح إلى حجم الانتفاج الحضاري المفترض، والتعصب ضد فريق ينتمي إلى العرب والمسلمين، ويسجد بعد فوزه على أوروبا (العظيمة).
وما يلفت الأنظار أكثر هو حالة الإيقاظ غير المسبوقة للشعور العروبي بين كل شعوب العالم العربي، وهذا الفرح العارم الذي انتاب العرب في كل أصقاعهم، بعد أن تمكن فريق عربي من أن يخرجهم قليلًا من خيباتهم المتتالية، ويضعهم في مصاف الدول المنتصرة، حتى لو كان ضمن مستويات بسيطة، هي كرة القدم العالمية في كأسها المونديالي في قطر.
رب سائل يسأل لماذا الآن وما الذي أعاد إيقاظ هذا الشعور القومي العربي بعد أن خبا نجمه وأفل منذ فترة ليست بالقصيرة، حتى راح البعض يتخلصون شيئًا فشيئًا من نواتج الحلم القومي الذي كان يومًا ما يحرك الشارع العربي من المحيط إلى الخليج، ويبدو من خلال إطلالة موضوعية على انبثاقات تحرك واستفاقة هذا الشعور نتبين مايلي:
إن الشعوب العربية ونتيجة الخيبات المتوالية يمكن أن تخبو فيها عوامل الوحدة والنهوض فتظن واهمة أن الانتماء القومي والشعور الداخلي العربي هو السبب في هذه الخيبات، دون النظر إلى العوامل الأخرى المحيطة والمنجدلة معها.
يغيب في كثير من الأحيان عن مخيال العقل الجمعي للشعوب أن الاستبداد الفاشيستي الطغياني الذي اجتاح العالم العربي وخاصة في مشرقه وبعض مغربه، هو سبب كل بلاء، كما أكد على ذلك يومًا الشيخ عبد الرحمن الكواكبي، وبالتالي فإن الخيبات لاترتبط بإيدلوجيا بعينها، بل هي متعلقة بشكل مباشر بالاستبداد الطاغوتي، والعودة بالشعوب إلى العقل القروسطي البائس.
الشعور العربي في دواخل البشر لا يموت، بل يضمر ويتوارى عن الأنظار، ثم يعيش مراحل طويلة من السبات، حتى تأتي عوامل ومثيرات لحظية فتعيد إنتاجه من جديد، وتعيد ظهوره بشكل قوي، كما حصل مع الانتصارات التي جرت مع المغرب، وقبل ذلك مع السعودية.
النظام الرسمي العربي الذي ساهم بشكل كبير في التطمير على الشعور العربي، نتيجة ما فعله في الوجدان الشعبي العام للناس، وعدم قدرته على إنتاج مشروع عربي مفترض يمكنه أن يمسك بناصية الحق والحقيقة، ليواجه مشروعين خطيرين يستهدفان العرب، وهما المشروع الصهيوني وأداته إسرائيل المنتهكة للأرض في فلسطين والجولان، وكذلك المشروع الخطر الآخر وهو المشروع الفارسي الطائفي الذي يريد إحياء امبراطورية (كسرى أنو شروان) على أنقاض العرب المحيطين بها، حيث لم يوجد حتى الآن مشروع عربي متمكن وقادر على إيقاف تقدم المشروع الفارسي تجاه العالم العربي حيث وصل إلى العراق واليمن وسوريا ولبنان.
إدراك الغرب عامة أن أي إمكانية لإيقاظ مشروع عربي وإعادة تماسك العرب والمضي في مسارات جدية توحيدية قادرة، يمكن أن يؤثر كلية على المشاريع الاستراتيجية الغربية والأميركية خاصة، تجاه المنطقة، وقد يؤثر بالضرورة على أمن الكيان الصهيوني المزروع داخل الجغرافيا العربية. وهو ما تبين عبر التوجه الخليجي مؤخرًا نحو الصين، الذي أخاف الغرب وراحوا ينظرون إلى هذه التحركات الخليجية الصينية بخيفة وحذر، من حيث إنها يمكنها أن تؤثر على الطاقة، خاصة بعد الحرب الروسية على أوكرانيا وأزمة الطاقة العالمية.
ولأن الشعور العربي وحده لم يعد كافيًا، كان لا بد للنظام الرسمي العربي أن يدرك، وكذلك كل القوى الوطنية في كل الساحات العربية، أنه لا بد من استثمار هذه الاستفاقة للشعور العربي، نحو مزيد من توحيد قوى الأمة ومشروع نهضتها، وإنجاز ما عجزت عن إنجازه عبر عقود زمنية مضت، كانت مليئة بالخيبات والهزائم، وسوف تظل الأسئلة قائمة وماثلة أمام الجميع، فهل يمكن أن تستثمر هذه الاستفاقة وتوجه باتجاه إنتاج مشروع عربي توحيدي يطول الشعوب والأنظمة؟، ومن ثم هل يمكن تجاوز تلك الارتماءات البائسة في أحضان الغرب أو الدول الكبرى التي تسير وراء مصالحها، وليس مصالح الشعوب العربية؟، ولابد من السؤال لماذا تبقى (مثلًا) الكثير من الخلافات بين الجزائر والمغرب، عبر سنين طويلة، بينما يحتفل شعب الجزائر وشعب المغرب معًا بفوز فريق المغرب دون النظر إلى كل تلك الخلافات البينية بين نظامي الجزائر والمغرب التي لا تنتج إلا المزيد من الدمار والتراجع والنكوص على كل المستويات؟. وهل يمكن أن يعمل العرب جميعًا على دوام هذا الشعور العربي المتوقد، دون أن يدخل في حالة سبات جديدة؟
المصدر: تلفزيون سوريا