عبد الناصر العايد
فكّك تحقيق صحافي استقصائي، نُشر مؤخراً، الخيوط المتداخلة وعمليات التورية المعقدة التي لجأ إليها نظام الأسد لإخفاء صلات الحرس الثوري الإيراني، بُمشغّل ثالث لشبكة الهاتف المحمول في سوريا والمسمى "وفا تل". التحقيق كشف أن أكثر من نصف رأس مال الشركة المشغلة الجديدة، يعود لوكلاء لإيران يتخذون من ماليزيا مقراً لأنشطتهم التي تمتد إلى عمليات بيع نفط إيراني بصورة غير شرعية، واستجرار مواد تستخدم في الصناعات العسكرية عن طريق طرف ثالث، وقد طاولتها العقوبات الغربية مسبقاً بسبب ذلك.
تكشف الجهود المضنية التي بذلت لمحاولة تمرير هذه الشركة الواجهة/الوهمية، مأزق نظامَي الأسد والولي الفقيه في ظل العقوبات والضغوط الدولية عليهما، وهما لم يفلحا على ما يبدو، رغم كل محاولات الالتفاف، في إيجاد جهة موردة للمعدات والتجهيزات اللازمة لوضع الشبكة الجديدة في الخدمة، إذ تأجل اطلاقها مرة بعد أخرى لأسباب غير معلنة. لكن يبدو أن عجز الوكلاء عن إيجاد جهة تغامر بالتعاون معهم، هو أحد أسباب التأخر في تشغيلها. على سبيل المثال، في ردها على معدي التحقيق، نفت شركات كبرى في مجال تكنولوجيا الاتصالات، مثل "هواوي" Huawei الصينية و"زي تي إي" ZTE، عملهما كمورّدين اقليميين من الباطن للشبكة المزعومة، بعدما رجح الخبراء ذلك.
على صعيد آخر، عبر مثال شركة "وفا تل"، فإن الاستماتة الإيرانية للاستحواذ على القطاعات الحيوية السورية، بما فيها ذات الصفة الأمنية الحساسة مثل قطاع الاتصالات، تعطي فكرة عن المدى الذي قد تذهب إليه، أو ذهبت إليه فعلاً، في تملّك الأصول الصلبة مثل الأراضي والعقارات والمنشآت الحيوية من موانئ ومناجم الفوسفات والنفط وغيرها. وتُظهر سعيها الحثيث للاستحواذ على الأصول الرمزية والسيادية والاستثمار فيها، كقطاع الاتصالات والمعابر الحدودية، مثل معبر البوكمال، والمناطق الحرة. إن هذا التغلغل الواسع وغير المرئي حتى الآن، سيكون في لحظة ما، البديل الأكثر فاعلية للهيمنة الأمنية والعسكرية الحالية للمليشيات في سوريا، هذا في حال اضطرارها لسحبها، سواء بسبب ضغوط جديّة أو وفق صفقة دولية.
إن النظر في الحالة الإيرانية التي قدمها التحقيق الاستقصائي، تذكّر بحالة روسيّة مشابهة. فبينما لدينا هنا الحرس الثوري الإيراني كمليشيا شبه رسمية تسعى لمد أذرعها الخفية والمعلنة في تفاصيل الحياة السورية، وتأمين استثمارات مجزية لها في هذا البلد تجعلها مستقلة وقادرة على تمويل ذاتها بذاتها مع تعزيز مصالح إيران الإقليمية،.. فإن لدينا في المقلب الآخر مليشيا فاغنر الروسية التي يقودها طباخ بوتين بروغورين، وكنا قد تحدثنا في مقال سابق عن العَقد المبرم بينها وبين نظام الأسد، والذي تسيطر بموجبه على المنابع النفطية لمدة زمنية طويلة، مقابل خدماتها في محاربة خصوم النظام والمساهمة في انتصاره عسكرياً.
ويمكننا أن نتكهن على الأقل، بأن نظام الأسد ليس سوى الشريك الثالث في موارد وثروات سوريا المادية والرمزية، بين شريكين آخرين هما إيران وروسيا، ويضاف إليهم بحكم الأمر الواقع الشريك التركي، الذي يتقدم بخطى حثيثة لإضفاء "الشرعية" على مكاسبه في سوريا من خلال اتفاقيات مع النظام، في ظل تعثر إسقاطه وإقامة حكم بديل مُوالٍ لها بالكامل. ويبدو أن منطق أنقرة هو أن ما لا يُدرَك كلّه، لا يُترَك جلّه.
إن "الفتوح" ذات الطبيعة الكشفية الرفيعة التي تقدمها الأبحاث والاستقصاءات المتوالية حول نظام الأسد وممارساته وجرائمه، مثل التحقيق الذي نشر قبل أشهر حول مجزرة "التضامن"، هي لَبِنات في واقع صلب جديد يتخلق في منطقة الديكتاتوريات التي عاشت طويلاً بمنأى عن الأضواء في ممالك الصمت والكتمان المسوّرة بالقمع الوحشي.
فالأبحاث والاستقصاءات حول انتهاكات وجرائم نظام الأسد تتوالى، وقد صارت من أشد المواضيع اغراء لمحترفي وهواة الكشف الاستقصائي الحديث، المسلّح بأساليب فائقة التطور، خصوصاً على صعيد المصادر المفتوحة وإمكانات البحث والتعقب عبر الشبكات العنكبوتية. وبسبب طبيعة هذه الأعمال التي تعتمد على الأناة، وجمع أجزاء الصورة المتباعدة، فإن عدداً كبيراً منها ما زال قيد الإعداد السرّي، وسيستغرق زمناً لا بد منه، لكنها ستظهر في النهاية، وستنفجر هذه القنابل تباعاً في وجه النظام لتقوض كل محاولاته ومحاولات حلفائه لإيقافه على قدميه مجدداً.
المصدر: المدن