محمد سرميني
حضرتُ الأسبوع الماضي أعمال منتدى الحوار المتوسطي في روما، والذي يعقد سنويا في إيطاليا، ويشارك فيه نخبة من زعماء الدول ووزراء الخارجية، ومسؤولون وصنّاع قرار ومراكز دراسات ومنظمات دولية.
يركز المنتدى سنويا بطبيعة اسمه على القضايا التي تهم المنطقة المتوسطية، حيث ركزت أعمال المنتدى هذا العام على 4 محاور هي مكافحة الإرهاب من الناحية الأمنية والتطرف من الناحية الاجتماعية، والهجرة غير الشرعية والأمن الغذائي العالمي وأزمة الطاقة.
وما كان لافتا في الكلمات التي قدمها غالبية الوزراء والمسؤولين الأوروبيين؛ هو غياب الحديث بشكل شبه مطلق عن الديمقراطية ومسارات الدمقرطة، والغياب الكلي للحديث عن مفاهيم حقوق الإنسان وموقعها في معادلة العلاقات الدولية.
ما جرى في المنتدى يمثل نمطا سائدا يمكن ملاحظته في العديد من المنتديات المشابهة والأهم في توجهات وسياسات الدول الغربية، حيث تغض الدول الغربية معظم الوقت النظر عن منظومة حقوق الإنسان والديمقراطية لصالح منظومة المصالح، بل وتفضل في معظم الأحيان دعم الأنظمة الدكتاتورية وتلك التي تنتهك حقوق الإنسان وتعمل على تعطيل وحتى محاربة أي جهد يسعى لإضعاف هذه الأنظمة.
وتظهر هذه المقاربة في عدد من النماذج الواضحة، حيث يمكن استخدام النموذج السوري كحالة دراسية ممثلة لها، فالعديد من الدول الأوروبية تسعى إلى التطبيع مع النظام السوري، دون وجود مصلحة واضحة لها في ذلك، ورغم علمها بسيطرة موسكو وطهران على منظومة القرار في دمشق، وعلمها بطبيعة الحال بكل الجرائم التي نفذها النظام السوري منذ عام 2011، وحتى في العقود التي سبقت ذلك.
ولا يقتصر الموقف الأوروبي المشين من النظام السوري على مساعي التطبيع، فالمسؤولون في النظام السوري يستثمرون أموالهم المنهوبة في أوروبا، وأولادهم وعائلاتهم تقيم فيها، والتعاون الأمني مع النظام لم ينقطع، بل ولم تتوقف زيارات المسؤولين الأمنيين إليهم. وهذا النمط الأوروبي في التعامل مع النظام السوري يعود إلى ثمانينيات القرن الماضي عندما استضافت فرنسا وإسبانيا وبريطانيا مجرم الحرب رفعت الأسد وأبناءه وأنصاره مع مليارات من الدولارات المنهوبة من السوريين، إلى أن عاد رفعت مؤخرا إلى سوريا ولكن الكثير من استثماراته ما زال هناك.
إن الحديث عن ازدواجية المعايير الغربية تجاه منظومة حقوق الإنسان أحيته الحملة الأوروبية الأخيرة تجاه قطر، حيث اختارت عدة دول ومدن ومؤسسات أوروبية الدخول في معركة مفتوحة ضد قطر وضد استضافتها لكأس العالم "نصرة لحقوق الإنسان"، حيث عادت تردد الحديث عن انتهاكات لحقوق العمال، وانتهاك حقوق المثليين!
والازدواجية الأوروبية في المعايير ظهرت ممجوجة بشكل لافت ووقح، فقد جاءت في الوقت الذي تسعى فيه هذه الدول لتعزيز علاقاتها الاقتصادية مع قطر من أجل الحصول على إمدادات الغاز منها، أي أن قطر يمكن أن تكون دولة صديقة وحليفة عندما يتعلق الأمر بالغاز وإن كانت دولة لا تتشاطر منظومة القيم مع دول أوروبا عندما يتعلق الأمر بكأس العالم.
كما أن الحملة الأوروبية ضد قطر أعادت إلى الأذهان مباشرة سياسة الدول ذاتها، وفي معظم الأحيان ذات السياسيين، في التعامل مع حدث قريب ومماثل تماما، وهو مونديال كأس العالم في روسيا قبل 4 أعوام فقط، عندما لم يمنع الموقف الروسي من حقوق المثليين وكل انتهاكات حقوق الإنسان التي تقوم بها روسيا؛ الرئيسَ الفرنسي من الجلوس على المنصة إلى جانب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، ولم تؤثر هذه الانتهاكات بطبيعة الحال على تغطية وسائل الإعلام الأوروبية الحريصة على "منظومة حقوق الإنسان" كما يحصل اليوم في قطر.
وإن الحملة الغربية والأوروبية تحديدا على التنظيم القطري لواحد من أفضل دورات كأس العالم منذ انطلاقها، تعود إلى عوامل عديدة ليس لأي منها علاقة بحقوق الإنسان والديمقراطية.
والعامل الأهم في هذه الحملة يعود إلى النظرة الغربية عموما والأوروبية خصوصا والتي تنظر بنظرة دونية إلى غير البيض أولا وإلى المسلمين ثانيا، والتي ترى أن كرة القدم وكأس العالم هي منتج أوروبي وينبغي أن تكون الريادة فيه أوروبية بدون منازع.
هذه النظرة الأوروبية الفوقية كانت العامل المؤسس للحملة المضادة لقطر ولكنها تضافرت مع عوامل أخرى غذّتها وعمّقتها وكان من بينها موقف اليسار من الدفاع عن حقوق المثليين ومحاولة فرضها باعتبارها "دينا جديدا" وقيمة تعلو على كل حقوق الإنسان الأخرى. واستفاد اليسار هذه المرة من تنظيم الدورة في دولة عربية ومسلمة، وبالتالي فإنّ مختلف الأطياف اليسارية ستشارك في مثل هذه الحملة، على خلاف أن يكون التنظيم في روسيا، قِبلة اليسار وصنمه.
كما شاركت التيارات اليمينية الغربية في هذه الحملة لاعتبارات ليس لها علاقة بحقوق المثليين، حيث تتشارك هذه التيارات في الغالب الموقفَ القطري والروسي من هذه القضية، إذ شعر اليمين بوجود حاجة لتشويه صورة الآخر العربي المسلم، والذي تم تصويره منذ عقود باعتباره إما إرهابيا يفجر نفسه ويقتل الأبرياء، أو أحمقا لا يجيد إدارة المال الذي يملك، في الوقت الذي تقدم فيه قطر خلال المونديال صورة مختلفة ومشرقة عما يمكن أن يفعله العربي المسلم.
باختصار، إن الحملة الغربية، الأوروبية على وجه الخصوص، لاستهداف قطر وتنظيمها لكأس العالم ساهمت بتشويه صورة القائمين على هذه الحملة أكثر مما ساهمت بالإضرار بصورة قطر، وظهر الأوروبيون في هذه الحملة صغارا، وهم يحاولون بذل كل ما بوسعهم لتشويه صورة قطر، في الوقت الذي أغلقوا فيه أفواههم عندما كانت روسيا هي من ينظم كأس العالم، قبل أن يُجبَروا مؤخرا على "اكتشاف" أن روسيا دولة منتهكة لكل قيمة حقوق الإنسان، وتحمل سجلا دمويا من جرائم الحرب.
المصدر: الجزيرة