عبد الناصر العايد
نشر ممثل سوري معروف، مقطع فيديو، ناشد فيه رأس النظام إيجاد حلّ للأزمات المعيشية الخانقة التي يعانيها السكان الواقعون تحت سيطرته. وقال الفنان مستعيناً بمهاراته التمثيلية وإضاءة خافتة أضفت على المشهد ملامح تراجيدية: "صار الوضع لا يطاق، لا يحتمل، فوق طاقة البشر، بترجاك سيدي الرئيس، كون المنقذ، كل الحلول عندك".
لم يحدد الممثل الحلول التي يتوسل رأس النظام أن يعتمدها، كما لم تتضح دوافعه الفعلية لإطلاق تلك الرسالة العلنية في الانترنت. فالبعض لفت النظر إلى أن هذا الفنان لم يصدّر أي موقف منذ بداية الثورة السورية، لا مع النظام ولا مع المعارضة، وأن خروجه بهذا الفيديو في هذا الوقت، دليل نفاد صبر صادق ونابع من إحساس انساني قبل كل شيء، فيما شكك آخرون في الرسالة واعتبروها موجهة مخابراتياً، كون الرجل ممثلاً أولاً، وعلى اعتبار أنه عاش كل العقد الماضي معززاً مكرماً في حضن النظام من دون أن يحتاج حتى للتشبيح له، ولهذا دلالته وفق المعلقين.
والحال أن هذه الرسالة لن يختلف مغزاها العميق، سواء كان موحى بها من طرف النظام، أو أنها بدافع البؤس والحرمان الذي فرضه ذلك النظام أيضاً بطريقة مقصودة لدفع المجتمع وممثليه للخروج بهذه التضرعات التي تبيح له اتخاذ أي خطوات، من دون أي لوم أو عتاب، بل ومع وصفه بالمنقذ والمخلّص، والغاية كما يبدو وكما أشرنا في مقال سابق، هي تهيئة المسرح لصفقة تلوح في الأفق، تضمن بقاء النظام سياسياً، وتغير جزئياً من الواقعَين الاقتصادي والخدمي، مع التأكيد على عدم تخطي التغيير هذه الحدود، إلى ميدان السياسة والسلطة والذي يجب أن يبقى منطقة محرمة وحكراً على المُخلّص.
من هذا المنظور أيضاً، يمكن معاينة احتجاجات السويداء وما أثارته من ردود أفعال. فسكان المحافظة دُفعوا دفعاً، عبر الإهمال المقصود والتحامل عليهم بالحرمان، حتى حصل الانفجار، لكن رد الفعل الأبرز لم يأت من النظام، بل من منطقة الساحل السوري حيث تتمركز قاعدته الطائفية. فالشجب والاستنكار العنيف "لتطاول" أهالي السويداء على رمزية رأس النظام وأبيه، من خلال تمزيق صورهما وإهانتهما أمام عدسات المصورين، بدت مأمورة، لشد عصب الطائفة العلوية التي تتمتع ببحبوحة نسبية مقارنة ببقية سكان البلاد. لكن هذه الطائفة يجب أن تشعر دائماً بأنها "مستهدفة" وأن تُبقي يدها على الزناد، لأن الأعداء يتربصون بها من كل جانب، من الأقليات كما الأكثرية، وما كراهية آل الأسد سوى رمز لكراهية الطائفة ككل، وليس من حق أبنائها الاحتجاج سوى بالحدود التي لا تمسّ عائلتهم الحاكمة. وقد كان لافتاً إطلاق حملة "معك ع المرة قبل الحلوة" في منطقة الساحل، وتصدي أشخاص هناك زعموا طويلاً معارضة النظام في وسائل التواصل الاجتماعي، ليهاجموا أهالي السويداء بعنف، وبخطاب طائفي تحريضي غير مسبوق.
لا تقتصر عملية تهيئة المسرح، على النظام، بل تساهم فيها إيران وروسيا من خلال إحجامهما عن تقديم العون للسكان، فكلا الدولتين ليستا عاجزتين عن إمداد حليفهما بباخرة وقود أو أكثر، لحلّ جل معضلاته ومركزها المشتقات النفطية. بل أن حلفاء أقل أهمية، سواء في العراق أو في لبنان، بمستطاعهم معالجة تلك المشكلة فيما لو أرادت طهران وموسكو، خصوصاً أن المؤشرات تفيد بصفقة قريبة مع أنقرة، وليس من المنطقي أن تبتعد هاتين الدولتين عن شريكهما الأساسي في هذه المرحلة المفصلية بعد كل ما تكبدتاه من أجله. فيما لا تشكل الحرب التي تخوضها روسيا في أوكرانيا، ولا الاحتجاجات الشعبية في إيران، عائقاً أمام تقديم المعونات القليلة، لا سيما من البترول الذي يتمتع البلدان بفوائض هائلة منه.
بالنظر إلى ما وصلت إليه الأحوال داخل سوريا وتدهورها الكارثي يومياً، الذي وصل إلى حد إصدار مجلس الوزراء تعميماً بتعطيل الدوائر الرسمية بسبب نقص الوقود، أي الوصول إلى مرحلة شلل السلطة ذاتها، فإن الوقت المتبقي للإعلان عن الصفقة الجديدة قد لا يتجاوز الأسابيع المعدودة، وربما قبل ذلك. واعتماداً على سلوك النظام وبُنيته الذهنية فإنه سيعتمد في الإعلان عنها أسلوباً شبيهاً شكلاً بما اعتمده للإعلان عن التدخل الروسي، عندما خرج رأس النظام بخطاب قال فيه إن قواته عاجزة وغير كافية للاحتفاظ بالسيطرة على الأرض، وهو ما ترجم بعد أيام بمنح جزء من الأرض لروسيا للحفاظ على جزء آخر. فأي جزء من البلاد سيبيع هذه المرة؟ ولمَن؟ تبدو الإجابة واضحة لأي مراقب متوسط المعرفة: سيقتطع الأتراك جزءاً من شمال سوريا، وربما تكون هناك، بهذه المناسبة، عطايا إضافية لروسيا وإيران وإسرائيل، لموازنة الرجَحان التركي.
يذعن المستبد لأي خصم خارجي قوي، فقضيته ليس التنافس مع الأنداد من الدول، ولا لدواعي السيادة والكرامة الوطنية. هاجسه الوحيد هو استمرار هيمنته واستعباده لمن يقعون تحت سيطرته. وهؤلاء لا يجوز أن يمنحهم أي تنازل، على العكس من ذلك. يجب إذلالهم وامتهان إنسانيتهم حتى يجأروا من الألم، وتبرير وتمرير التنازلات للخصوم بإسم شكواهم وانكسارهم، مع التقريع الضمني لهم لتسببهم بالهزيمة.
المصدر: المدن