محمود علوش
أحدث تلويح تركيا المتجدد بشن عملية عسكرية برية ضد وحدات حماية الشعب الكردية هزة في معادلة الصراع على الشمال السوري وأضفى غموضاً على مستقبل الستاتيكو العسكري القائم في هذه المنطقة منذ عملية نبع السلام التركية قبل ثلاث سنوات. لكنّ الاندفاعة التركية الحالية في الصراع مع الوحدات أدّت إلى تحريك المياه الراكدة في مسار الحوار بين أنقرة والنظام. منذ أن أبدت الأخيرة نهجاً منفتحاً تجاه النظام في أغسطس آب الماضي، أجرى رئيس الاستخبارات التركية هاكان فيدان زيارة سرية إلى دمشق وبحث مع رئيس مكتب الأمن الوطني السوري علي مملوك إمكانية عقد لقاء تركي سوري على مستوى وزيري الخارجية، لكن اشتراط النظام بعد ذلك انسحاب القوات التركية من سوريا مقابل الانفتاح على الحوار مع أنقرة أدّى إلى تجميد هذا المسار. بالنّظر إلى أن الهاجس الأمني من الوحدات الكردية ورغبة الرئيس رجب طيب أردوغان في تحقيق تقدم في عملية إعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى أراضيهم قبل الانتخابات التركية المقبلة لعبا دوراً رئيسياً في التحول التركي تجاه نظام الأسد، فإن أردوغان يأمل أن يؤدي إعادة العلاقات مع دمشق إلى تعاون أمني معها في مكافحة الوحدات الكردية ومساعدته في تهيئة الأرضية المناسبة لإعادة طوعية وآمنة للاجئين.
في حين أن النظام لم يُبد استجابة لرسائل الود التركية، فإن روسيا، التي تسعى لإنجاح مسار الحوار بين أنقرة ودمشق تضغط في الوقت الراهن على الأسد لتخفيف شروطه من أجل تجنّب سيناريو توغل تركي جديد من شأنه أن يُعقد فرص إعادة العلاقات بين البلدين في المستقبل المنظور. لدى موسكو أسباب أخرى أيضاً لدفع مسار الحوار التركي السوري. بفعل انغماس روسيا في حرب مع أوكرانيا لا تلوح في الأفق نهاية قريبة لها، يُثار الكثير من الشكوك حول مستقبل الوجود العسكري الروسي في سوريا وقدرة موسكو على مواصلة لعب دور ضابط الإيقاع بين تركيا والوحدات الكردية من جهة وبين تركيا والنظام السوري وإيران من جهة ثانية. يعتقد الروس أن إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق تساعدهم في الحد من المخاطر الناجمة عن تراجع دورهم في سوريا على المدى البعيد. كما يتخوفون من أن يؤدي إخلال تركيا بموازين القوى العسكرية في الشمال السوري إلى تراجع شهية أردوغان لتقديم تنازلات لدمشق خصوصاً إذا ما استطاع البقاء في السلطة بعد الانتخابات. علاوة على ذلك، تٌبدي موسكو اهتماماً بشكل متزايد في توظيف الانعطافة التركية مع النظام من أجل ممارسة مزيد من الضغط على الولايات المتحدة لسحب قواتها من سوريا.
رغم أن أردوغان بدا واقعياً في الأسابيع الأخيرة باستبعاد تحقيق خرق في مسار القطيعة مع دمشق قبل الانتخابات المقبلة، فإنه أبدى مؤخراً استعداده لعقد لقاء قريب مع الأسد ويُعول على التلويح بخيار العملية البرية ضد الوحدات الكردية كوسيلة لدفع موسكو إلى ممارسة مزيد من التأثير على الأسد من أجل الانفتاح على أنقرة. حتى الآن، ما يزال الأسد يُبدي معارضة شديدة لجهود الوساطة الروسية وقد سرّب مؤخراً عبر مصادر لوكالة رويترز أنه يُقاوم الضغوط الروسية عليه لعقد اجتماع مع أردوغان. في ضوء أن الأسد يحتاج إلى انفتاح تركي عليه من أجل إضفاء مزيد من الشرعية على نظامه في الخارج بعد إعادة بعض الدول العربية العلاقة معه، فإنه يُعارض الانفتاح الحالي على أنقرة من منطلق أن مثل هذا الأمر سيُعزز موقف أردوغان الانتخابي خصوصاً إذا ما كان الهدف التركي انتزاع اعتراف من دمشق بمشروعية الوجود العسكري التركي في سوريا من بوابة الهاجس الأمني، وطرح قضية اللاجئين في الوقت الذي يسعى فيه أردوغان للإظهار للداخل التركي أنّه مُصمم على معالجة هذه المسألة ويعمل على إضعاف المشروع الذي تقدمه المعارضة التركية لحل مسألة اللاجئين مع دمشق في حال وصولها إلى السلطة.
علاوة على ذلك، ينبغي عدم تجاهل التأثير الذي تحاول إيران ممارسته على النظام السوري لعرقلة جهود إصلاح العلاقات مع تركيا. رغم أن طهران أبدت استعدادها لتسهيل عملية الحوار بين الطرفين، إلآّ أنها تُريد أن يكون هذا الحوار مشروطاً بالانسحاب التركي من سوريا. كنتيجة للضغوط التي تتعرض لها روسيا بفعل حربها في أوكرانيا، فإن إيران تطمح إلى ملء فراغ تراجع روسي في سوريا. كما أنه انطلاقاً من تنافسها الإقليمي مع تركيا في سوريا والعراق، فإنها تخشى أن تؤدي إعادة العلاقات بين أنقرة ودمشق إلى تعزيز المصالح التركية في سوريا على حسابها. بالنّظر إلى أن إيران عملت على مدى سنوات من انخراطها في الحرب السورية على تعزيز حضورها الطائفي في بعض المناطق من خلال تهجير سكانها، فإنها ستقاوم أي جهود لإعادة اللاجئين السوريين إلى هذه المناطق. حقيقة أن التأثير المتزايد لإيران على النظام السوري تجعل من الصعب إنجاح مشروع إعادة اللاجئين السوريين إلى مناطقهم في المستقبل المنظور.
بيد أن رهان الأسد على الانتخابات التركية ينطوي على مخاطر قد تؤدي إلى نتائج عكسية. فمن جانب، يعمل إصرار الأسد على التمسك بمطلب الانسحاب التركي على دفع أردوغان إلى المضي بخيار العملية البرية. ومن جانب آخر، لم تعد تركيا تُعاني من عزلة إقليمية كما كان الوضع في السابق ونجحت في العامين الماضيين في تفكيك عزلتها الإقليمية وتعظيم دورها ومكانتها الجيوسياسية في السياسة الخارجية العالمية. على صعيد آخر، أدّت الضغوط الداخلية المتزايدة على أردوغان بفعل قضية اللجوء السوري، وترويج المعارضة التركية لمشروع إعادة العلاقات مع دمشق في حال وصولها إلى السلطة، إلى الضغط على أردوغان لإحداث تحول في السياسة السورية. لكنّ إمكانية بقائه في السلطة بعد الانتخابات قد تؤدي إلى تراجع شهيته على تقديم تنازلات كبيرة لدمشق. إذا كان تركيز أردوغان على ضمان فوزه في الانتخابات جعله أكثر براغماتية في إعادة مقاربة العلاقات مع خصومه الإقليميين، فإن الفرصة لإحداث تحول مع دمشق من واقع الضغط قد تتراجع بعد الانتخابات عندما يتراجع هذا الضغط. في ضوء ذلك، قد يجد الأسد أن الرهان على تحول سياسي تركي في الانتخابات أكثر ضرراً عليه من الانفتاح الفوري على أردوغان.
بالنظر إلى الدور المهم الذي تلعبه روسيا في رعاية المسار الجديد بين أنقرة ودمشق، فإنها تُشكل الآن الضمانة الرئيسية لإمكانية إنجاح هذا المسار أو التعجيل به. في ظل أن الحديث الراهن يتمحور حول إمكانية عقد لقاء بين الأسد وأردوغان لا يُمكن أن تُساعد على الفور في إتمام مسار جديد بين أنقرة ودمشق، إلآّ أنه سيُساعد في إزالة عقبة رمزية، لكنّها مُهمة. لا يبدو أردوغان محاوراً مفضلاً لدمشق، لكنّه لم يُظهر تردداً في فرض واقع عسكري جديد في شمال سوريا عندما يشعر بالحاجة لذلك. لقد سبق أن تحدى الضغوط الأميركية والروسية عليه في عملية نبع السلام قبل ثلاث سنوات واستطاع إجبار موسكو وواشنطن على التفاوض معه لإنهاء العملية. والآن، لن يكون مُتردداً في تكرار الأمر ذاته.
المصدر: تلفزيون سوريا