عبد الباسط سيدا
لم تعد الرغبة التركية في الاحتفاظ بمنطقة نفوذ على طول الحدود مع سورية، وهي حدود طولها أكثر من 900 كم، مجرد تكهّن أو توقع، بل هي تجسّد نزوعاً تبلوَر مع بدايات التدخلات الإيرانية والروسية والأميركية الميدانية في الشأن السوري؛ وقد أصبحت هذه الرغبة في جزئها الكبير اليوم واقعاً على الأرض، وغدت "المنطقة الآمنة" مطلباً مستمرّاً من الجانب التركي في الاجتماعات الخاصة بالملف السوري مع مختلف الأطراف، بل هدفاً معلناً تركّز عليه تصريحات المسؤولين الأتراك على أعلى المستويات. أما مسوّغات أنقرة في هذا السياق فتتمثل في سعيها من أجل المحافظة على أمنها عبر منع وصول الإرهاب إليها، وهي تقصد، بطبيعة الحال، حزب العمّال الكردستاني في المقام الأول، والذي اتهمته بالعملية الإرهابية التي شهدها شارع الاستقلال في إسطنبول في 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، رغم نفي الحزب المعني أي علاقة له بهذه العملية، وكذلك فعلت واجهاته السورية.
كان من الواضح منذ الأيام الأولى للثورة السورية (مارس/ آذار 2011) حينما قرّرت سلطة بشار الأسد بالتنسيق مع الروس والإيرانيين تجديد العلاقات القديمة مع "العمّال الكردستاني"، وتسليمه المناطق الكردية ومعها آبار النفط شرقي القامشلي ورميلان (محافظة الحسكة)، أن السلطة المعنية تريد استخدام ورقة الحزب المذكور مع تركيا، كما فعل الأسد الأب، إذ منحه، منذ بدايات الثمانينيات، الامتيازات الخاصة في كل من سورية ولبنان، حتى إن زعيم الحزب، عبد الله أوجلان، اتخذ من دمشق مقرّه الدائم.
أما هدف السلطة من هذا الإجراء فقد كان تحييد الكرد، وإبعادهم عن الثورة السورية، خصوصاً بعد التظاهرات الكبيرة التي شهدتها معظم المدن الكردية دعماً للثورة، وعدم تلبية رؤساء الأحزاب الكردية السورية دعوة بشار الأسد إلى اللقاء به في دمشق. وجرى التوافق بين السلطة الأسدية والحزب على أدق التفاصيل، وتحديد المهام، واستمرّت الفروع الأمنية تعمل في المناطق التي سُلمت لهذا الحزب، وبقيت القوات العسكرية في مواقعها، والإدارات المدنية تعمل وكأن شيئاً لم يكن. في حين تصدّر "العمّال الكردستاني"، عبر واجهاته السورية، المشهد في عمليات قمع التظاهرات، وملاحقة الناشطين، والتخلص منهم اغتيالا أو تغييبا أو طرداً. ويبدو أن ما دفع السلطة إلى اعتماد خيار هذا الحزب إدراكها صعوبة استخدام فزّاعة "الإرهاب الإسلاموي" في المناطق الكردية؛ فلجأت إلى استخدام فزّاعة "الخطر الكردي" في سعيٍ إلى مغازلة المشاعر الكردية، وإحداث شرخ بين المكونات المجتمعية في محافظتي الحسكة وحلب.
وحاولت حكومة "العدالة والتنمية" في أنقرة، في البدايات، استيعاب الموقف، وأجرت اتصالاتٍ مع حزب الاتحاد الديمقراطي، في سياق العملية السلمية (2013 - 2015) التي كانت، في ذلك الحين، مع حزب العمال الكردستاني. وحتى إن الأميركان كانوا يحاولون استمالة هذا الحزب، وتشجيعه على قطع علاقاته مع السلطة والوقوف إلى جانب الثورة.
غير أن حزب العمّال الكردستاني كانت له أجنداته الخاصة، وعمل، من خلال مهمته الوظيفية السورية، وبالتنسيق مع الإيرانيين والروس، على اتخاذ كرد سورية مورداً لدعم بشري مادي؛ واستخدم نجاحاته المزعومة لصالح الكرد في سورية في دعايته بين كرد تركيا الذين كان قسم كبير منهم قد اندمجوا مع الإصلاحات والإنجازات التي كانت خلال العقد الأول من حكم حزب العدالة والتنمية، حتى تشكّلت كتلة كردية كبيرة ضمن "العدالة والتنمية" نفسه، ووصل عدد لافت من الكرد إلى البرلمان على قوائم هذا الحزب في انتخابات 2011 و2015، فضلاً عن الكتلة الكردية التي وصلت على قوائم حزب الشعوب الديمقراطي. ولكن ما حصل لاحقاً تراجع "العدالة والتنمية"، أو بتعبير أدق، أجنحة ضمن الحزب المذكور عن الالتزامات التي كانت قد قطعت للوصول إلى حل سلمي عادل للقضية الكردية في تركيا. ولكن، في الوقت ذاته، يبدو أن قوى معينة ضمن "العمّال الكردستاني" نفسه، وبتأثير من الجانب الإيراني، لم تكن هي الأخرى تريد الوصول إلى حلٍّ كهذا، لأنها كانت ستفقد نفوذها لصالح حزب الشعوب الديمقراطي الذي كان قد بدأ استقطاب شرائح واسعة بين الكرد، وشرائح من مكوّنات قومية أخرى، خارج نطاق المؤيدين للحزب، ممن كانوا يحبذون الحل السلمي للموضوع الكردي.
وفجّر المتضررون الموقف، وكانت المواجهات في مدنٍ كرديةٍ تعرّضت لقصفٍ بالأسلحة الثقيلة، هذا إلى جانب عمليات الاغتيال والصدام بين حزب العمال والجيش التركي في عدة أماكن. وكان من الواضح أن القوى المتشدّدة من الجانبين تعمل من أجل إيقاف العملية السلمية، الأمر الذي أدّى، بطبيعة الحال، إلى توقف الاتصالات بين السلطات التركية وحزب الاتحاد الديمقراطي نفسه.
تطور آخر لافت حدث في الأثناء بعد توافق الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما مع الرئيس الروسي بوتين عام 2015 على توزيع المهام في سورية، إذ تكفلت روسيا بمناطق غرب الفرات، وأخذت الولايات المتحدة على عاتقها مهمة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مناطق شرق الفرات. وبالانسجام مع الحسابت الانتخابية الأميركية، ومع سياسة القيادة من الخلف التي اعتمدها أوباما، وغضّه النظر عن الوجود الإيراني وأذرعه من المليشيات المذهبية؛ وتخليه عن خطّه الأحمر، والاكتفاء بصفقة الكيماوي. وعلى الأغلب، كان ذلك ضمن إطار توافقات أميركية روسية إسرائيلية، تم الاعتماد على قوات حزب العمّال الكردستاني، عبر واجهاته السورية، وذلك بعد تجربة التنسيق الجوي في معركة كوباني؛ ولتجاوز الحرج الأميركي مع الجانب التركي، كان تغيير اسم قوات "حماية الشعب" التابعة للحزب. (بالمناسبة، هذا اسمها الرسمي، ولكن وكالات الأنباء تصرّ على تسويق اسم "قوات حماية الشعب الكردي") إلى قوات سوريا الديمقراطية (قسد) لترويج فكرة تضليلية مفادها بأنها قوات وطنية تضم مقاتلين من مختلف المكونات المجتمعية في المنطقة؛ مع العلم أن كثيرين ممن انضمّوا إلى هذه القوات من العرب والكرد والسريان كانت لهم في الأصل علاقات مع السلطة الأسدية، سواء عبر حزب البعث أو من خلال الأجهزة الأمنية المتعدّدة. .. وهذا فحواه أن التوجه العام لهذه القوات ظل كما هو، ولم تكن العلاقة بينها وبين السلطة عدائية، وإنما كانت مبنية على توزيع المهام والأدوار. وكان الاعتماد الأميركي - الغربي على قوات هذا الحزب في عمليات محاربة "داعش" في محافظات الحسكة ودير الزور والرقة؛ هذا مع معرفة الأميركان المسبقة بطبيعة علاقة هذه القوات مع حزب العمّال الكردستاني، ومع السلطة الأسدية، وحتى مع نظام ولي الفقيه والروس.
واليوم يأتي القصف التركي، بمختلف أنواع الأسلحة بما فيها الطائرات والمسيّرات، على مواقع "قسد" و"العمّال الكردستاني" في منطقة كوباني، ومناطق عدة في الجزيرة السورية، ليعكس وضعية التشابك والتعارض بين المواقف الإقليمية والدولية في موضوع عملية برّية جديدة يوحي بها المسؤولون الأتراك. هذا في حين أننا نسمع تصريحات من المسؤولين الأميركان والروس، تدعو إلى ضبط النفس، رغم حرصهم على الإعلان عن تفهّمهم هواجس تركيا الأمنية، خصوصا بعد العملية الإرهابية في إسطنبول.
من ناحية ثانية، يلقي القصف التركي الضوء على طبيعة المشكلة التي تواجهها منطقة الجزيرة السورية، والمناطق الكردية الأخرى على الحدود التركية السورية (عفرين، كوباني) منذ بدايات الثورة السورية، فأساس المشكلة يكمن في الصراع القديم الجديد بين "العمّال الكردستاني" وتركيا، وهي المشكلة نفسها التي يواجهها إقليم كردستان العراق الذي يشهد هو الآخر عمليات القصف التركي التي تطاول المدنيين، في أحيان كثيرة.
وقد أثبتت تجارب نحو أربعة عقود أن هذه المشكلة لن تحلّ بالطرق العسكرية، فالموضوع الكردي في تركيا ما زال ينتظر الحل، وهو موضوع كبير لا يمكن التستر عليه، أو إلغاؤه في الواقع والأذهان بالشعارات والمجاملات، فالكرد يمثلون نحو ربع السكان، ويتوزّعون على مساحةٍ جغرافية واسعة، إلى جانب حجم وجودهم الكبير في إسطنبول ومدن تركية أخرى كبيرة. ولا بد من الاعتراف هنا أن حزب العدالة والتنمية أقدم على خطوات مهمة في طريق إيجاد حل واقعي مقبول لهذا الموضوع، إلا أنها تعثرت لأسبابٍ هنا وهناك. واليوم هناك حاجة ماسّة، تخص مختلف الأطراف، للتعامل الحكيم مع هذا الموضوع، لأن المعالجات الأمنية أثبتت باستمرار فشلها.
يستوجب المنطق السليم العودة إلى المفاوضات السلمية بين الدولة التركية والأحزاب والقوى الكردية، من أجل الوصول إلى حل عادل للقضية الكردية في تركيا، على أساس وحدة الشعب والبلد. وأمر من هذا القبيل سيكون لصالح تركيا أولاً، ولصالح الأتراك والكرد، ولصالح الأمن والاستقرار والتنمية في المنطقة بأسرها. وفي نهاية المطاف، لا ينفصل الموضوع الكردي السوري عن الموضوع السوري العام، رغم أنه بات محطّ اهتمام القوى الإقليمية والدولية، نتيجة صراعها على سورية، فمعالجة هذا الموضوع ستكون في إطار الحل الشامل للموضوع السوري. .. كرد سورية هم اليوم تحت رحمة القوى المتصارعة (من دول ومليشيات وفصائل مسلحة محلية أو وافدة) على مناطقهم. وقد تسبّب ذلك في تهجير أكثر من مليون منهم إلى خارج البلد. ومن بقي منهم في ديارهم، يعانون من ظروفٍ معيشية بالغة الصعوبة. وما يزيد الوضع تعقيداً، ومسدود الآفاق راهناً، أن الحل المنتظر للموضوع السوري بعيد المنال اليوم بكل أسف، لأسباب عديدة، منها انشغال العالم بالحرب الروسية على أوكرانيا، وتفاعلاتها الاقتصادية، والخوف الناجم عن توقعات اتساع نطاقها وزيادة حدّتها.
المصدر: العربي الجديد