صحافة

هكذا تنهض الدول رياضياً

السبت, 26 نوفمبر - 2022
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

د. فيصل القاسم 


لا بد أولاً أن نرفع القبعة لبعض البلدان العربية التي بدأت تنهض على أكثر من صعيد، وخاصة في منطقة الخليج، حيث يتصاعد الاهتمام بالرياضة جنباً إلى جنب مع الاهتمام الكبير ببقية مناحي الحياة، كالبنية التحتية والتعليم والصحة والإعلام. ولا بد أيضاً أن نحيي منتخبات كرة القدم العربية التي تبلي حتى الآن بلاء حسناً في مباريات كأس العالم بدولة قطر كالمنتخب السعودي والمغربي والتونسي، ومن قبلها الجزائري في بطولات أخرى. صحيح أن المنتخب القطري لم يلعب جيداً في مباراة افتتاح كأس العالم 2022، إلا أنها مجرد كبوة جواد عابرة، خاصة وأن المنتخب يحمل لقب «بطل آسيا». لكن في الوقت الذي نصفق فيه للفرق العربية الناهضة في كرة القدم، لا بد أن نذكّر بقية العرب بأنه من المستحيل النهوض بالرياضة والفوز دولياً وأنتم تعانون في بقية المجالات، فهو ضحك على الذقون. بعبارة أخرى، هناك دائماً تناسب طردي بين تقدم الدول تكنولوجياً واقتصادياً واجتماعياً وحضارياً وتقدمها رياضياً. لا يمكن أن تكون متخلفاً في كل شيء ومتقدماً في الرياضة، ومن يقبع في ذيل الأمم عموماً لا يمكن أن يكون في مقدمة الأمم في أي شيء آخر، لأن التقدم يكون متكاملاً.

لقد حاولت الأنظمة العربية أن تلهي شعوبها بالرياضة كي تنسى خيباتها ونكساتها وتخلفها، فلاحقتها الخيبات والنكسات إلى أرض الملاعب، لأن الأنظمة المتخلفة الخائبة لا تنتج انتصارات رياضية. الرياضة حضارة أيها السادة، وهي انعكاس دقيق للشعوب والدول، كيف لكرة القدم أن تزدهر وبعض البلاد العربية كسوريا مثلاً تختار لاعبيها بالواسطة أو على أساس طائفي؟ حتى نقيب الفنانين في بلدنا يتم اختياره بناء على قربه من الأجهزة الأمنية، وليس بناء على قدراته الفنية. كيف تصنع فريق كرة قدم في بلاد ليس فيها أي معايير رياضية أو فنية حقيقية أو قانون؟ مستحيل. لا تستطيع أن تنافس الدول المتقدمة التي تعمل بالقانون والقسطاط بفرق رياضية فاسدة كالأنظمة التي ربتها؟ عندما تشاهد الفريق الكوري أو الياباني أو الألماني، أول ما يتبادر لذهنك الصناعات والتكنولوجيا والأنظمة الكورية واليابانية والألمانية.

لا يمكن لأي دولة في العالم أن تتطور إلا شمولياً، وأعني هنا التقدم الشامل على كل الأصعدة، كيف للرياضة العربية أن تزدهر وترفع رؤوسنا عالياً في المحافل الرياضية الدولية إذا كان كل شيء في بعض الدول العربية متدهوراً سياسياً واقتصادياً وثقافياً واجتماعياً ودينياً؟


لقد أصاب نيكولاس كريستوف المعلق في صحيفة «نيويورك تايمز» الأمريكية كبد الحقيقة عندما قال إن: «نهضة الصين تتجاوز الميداليات الذهبية التي تحصدها عادة في الألعاب الأولمبية.. صحيح أن الصين أبهرت العالم بهذه الطفرة الرياضية العظيمة التي أزاحت الولايات المتحدة لتصبح الفائز بمعظم الميداليات الذهبية، إلا أن للصين أيضاً بصمة أكبر في الفنون والتجارة والعلوم والتعليم.. إن نهضة الصين في الأولمبياد ممتدة إلى كافة مناحي الحياة تقريباً». بعبارة أخرى، فإن الريادة لا تأتي في مجال وتتخلف في آخر، بل هناك دائماً رابط بين التفوق الرياضي والتقدم العام.

بعبارة أخرى، فإن الرياضة يمكن أن تكون مرآة المجتمع، فحصاد الدول الرياضي عموماً «لم يأت من فراغ، فالرياضة منظومة متكاملة، تشمل قائمة طويلة من الموارد، والمعدات والأدوات الرياضية المناسبة، والكفاءات والخبرات، والتدريب الجاد، وجوانب نفسية منها الإصرار والعزيمة والقدرة على التحمل، والعمل الجماعي، والتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين، والثقافة الرياضية في المجتمع، إلى غير ذلك، ويأتي على رأس قائمة هذه المنظومة التخطيط الجيد والإدارة الفعالة. وطبعاً الإرادة السياسية والطموح الوطني. كيف لنا أن نطبق المعايير المذكورة آنفاً على الرياضة إذا كانت غائبة تماماً عن باقي مناحي الحياة في كثير من الدول العربية. كثيرون من العرب لم يوفروا المعدات والموارد والأدوات والكفاءات والخبرات والتدريب الجاد والثقافة والتخطيط الجيد والإدارة الفعالة لأي من مؤسساتهم التعليمية والصحية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية؟ وما ينسحب على التعليم والصحة ينسحب على الرياضة. وقس على ذلك. طبعاً هنا نستثني بعض دول الخليج التي تعمل على النهوض بالرياضة وبقية المجالات في آن معاً.

الرياضة في العديد من بلداننا، وللأسف، هي بنت السياسة العربية، فإذا كانت سياساتنا فاسدة، فلا يمكن إلا أن ينعكس ذلك الفساد السياسي على الرياضة والرياضيين. فالرياضة هي أحد ممتلكات النظام الشمولي العربي، مثلها في ذلك مثل مصلحة الصرف الصحي والفلاحة وجمع الزبالة والصناعة والسباكة والطبابة والثقافة والفن والعلم والتجارة والقضاء والتعليم وبقية القطاعات. ولا عجب مثلاً أن من بين ألقاب ما يسمى بالرئيس السوري لقب «راعي الرياضة والرياضيين». فحتى الرياضة التي تعتمد بالضرورة على القدرات الجسدية هي في بعض الدول تحت إمرة النظام الرسمي وأجهزة مخابراته.

لا يمكن لرياضيينا أن يتفوقوا لا داخلياً ولا خارجياً إذا كانت الرياضة عندنا تدار بعقلية الواسطة والمحسوبية والانتماءات الضيقة في بلدان عدة. فالمؤسسة الرياضية في الكثير من البلدان العربية هي مؤسسة حزبية أو سلطوية أو شللية. ولا عجب أن ترى على رأس بعض المؤسسات الرياضية العربية أشخاصاً مؤهلهم الوحيد أنهم قريبون من السلطة أو متحزبون أو مخبرون، ويفهمون بالرياضة كما أفهم أنا بالانشطار النووي ما بعد الحداثي. فكيف للرياضة العربية أن تزدهر إذا كانت في بعض البلدان مسيسة من رأسها حتى أخمص قدميها ومدارة بعقلية قبلية أو عائلية أو طائفية أو حزبية أو حتى عشائرية قروسطية؟

تحية للدول التي تستثمر في الرياضة جنباً إلى جنب مع الاستثمار في بقية المجالات وخاصة دولة قطر التي نجحت في استضافة أعظم حدث رياضي عالمي ألا وهي بطولة كأس العالم، لكن يجب ألا ننكر أن معظم العرب الآخرين مهزومون سياسياً واقتصادياً ورياضياً. وبالتالي لا رياضة مزدهرة من دون ريادة حضارية شاملة. 


المصدر: القدس العربي

الوسوم :