حسان الأسود
تتواصل منذ شهرين ونيّف مظاهر الاحتجاجات في إيران ضدّ نظام الحكم الثيوقراطي، والمرّة تلو الأخرى تتصاعد أشكال الانتفاضة وتتنوّع. تتسع مع الوقت شرائح المنضمّين لهذه الانتفاضة، وتنخرط فئات مختلفة فيها. بدأت بحالات فردية وفي مناطق متفرّقة، ثم باتت جماعية شملت نواحي متعددة من البلاد. تزداد رقعة الأماكن التي تشملها الانتفاضة تنوعاً، فدخلت المشافي وبعض المؤسسات على الخط. خرج الأطبّاء عن صمتهم، وتجرّأ عديدُ الرياضيين والفنانين من الجنسين في إعلان مواقفهم المؤيّدة لمطالب الناس، فها هو النجم الرياضي علي دائي يعتذر عن المشاركة في فعالية كأس العالم التي ستبدأ بعد أيامٍ في قطر تضامناً مع أبناء شعبه، وسبقته الممثلة المشهورة ترانه علي دوستي، التي رفعت شعارات المتظاهرين وخرجت حاسرة الرأس على حسابها في إنستغرام. وأتت هذه الحالات بعدما سمعنا أصواتاً عديدة لضباط في الشرطة وفي الجيش تحذّر من التمادي في قمع المتظاهرين وتعلن انحيازها لصفوفهم وتبنيها لمطالبهم.
بيّنت صحيفة شرق الإيرانيّة أنّ السلطات منعت مائة فنان بين مخرج وممثل من العمل والسفر خلال فترة الاحتجاجات الماضية، كما نشرت وسائل إعلام مختلفة العريضة التي قدّمتها الإعلامية والناشطة في مجال حقوق المرأة مسيح علي نجاد للاتحاد الدولي لكرة القدم، بطلب تعليق عضوية الاتحاد الإيراني لكرة القدم وطرد المنتخب الإيراني من مونديال قطر لعام 2022، فقد عللت مسيح مع مجموعة المحامين الدوليين المشاركين معها هذا الطلب، بأنّ الاتحاد الإيراني مؤسسة تابعة للحكومة وغير مستقلة وتمارس تمييزاً عنصرياً ضد النساء، وهو ما يتعارض بشدّة مع قيم ودستور الفيفا في سلوكٍ يعملُ على استبعادٍ ممنهجٍ للنساء من النظام الرياضي. ومن المفيد هنا التذكير بحملات المناصرة الواسعة في أوروبا التي قامت بها مجموعات كبيرة من نشطاء حقوق الإنسان، والتي توّجت بمظاهرات عُدّت بمئات الآلاف في برلين وغيرها من العواصم، ما زاد الضغوطات على حكومات دول الاتحاد الأوروبي ودفعها لإقرار حُزمٍ جديدة من العقوبات على النظام الإيراني وكبار شخصياته.
تتميّز الانتفاضة الإيرانيّة هذه المرّة بأنها تضرب في جذور نظام الحكم، فلم تعد المسألة مجرّد اعتراضٍ على التضخّم وارتفاع الأسعار ونقص فرص العمل، بل تخطّت المطالبَ المعاشيةَ الاقتصاديةَ البسيطة لتلامس جوهر النظام السياسي القائم على ادعاء تنفيذ إرادة الله من خلال الحكم باسمه وبشريعته. لقد طفح الكيل بالإيرانيات قبل الإيرانيين من هذا النمط المتخلّف من الحكم. مشهد معقّدٌ من تداخل الذكورية الاجتماعية بالخلفية الدينية بالطبقيّة الاقتصادية، أنتج على مدار أربعة عقود ونيّف مزيجاً فريداً من السلطة الاستبدادية المركّزة بيد فردٍ واحد، يوزّعها بدوره على أتباعٍ يقودون مؤسسات صُممت لتكون على مقاسهم، ويديرونها بعقلية القرون الوسطى القائمة على العنف والقهر، والهدف النهائي استدامة نظام الحكم هذا.
يعتبرُ الإيرانيون أنفسهم بشراً كباقي البشر، يستحقون الكرامة في بلدهم الغني بالموارد الطبيعية وبالقوى العاملة، يطمحون للحريّة في بلدهم العريق أصالةً، الزاخر بالجمال، يرغبون بالمساهمة في مستقبل الإنسانية أسوة بغيرهم من الشعوب، يتوقون للعيش بسلامٍ مع جيرانهم. لكنهم يرون بأمّ أعينهم كيف تُسحق هذه الأحلام تحت أقدامٍ ثلّة مارقة من أبناء جلدتهم. تُنهب الثروات الداخلية في دورة رهيبة من الفساد، يتمتع بها أعضاء طبقةٍ محدودة للغاية من رجال الدين والسلطة، وما تبقّى من أموالٍ يُصدّرُ إلى مليشياتٍ أجنبيةٍ جلّ همّها الاستيلاء على القرار في بلادها لإلحاقها ببرنامج نظام الملالي، والنتيجة تخريب هذه المنطقة برمّتها في دوّامة الحروب الأهلية والطائفية والصراعات التي لا نهاية لها.
الربيع الإيراني مختلف هذه المرّة، فالغضب العارم لم يوجّه إلى أداء الحكومة التي بات الإيرانيون على ثقة أنّها مجرّد واجهة لا غير، بل إلى رموز النظام ذاته. لا تطاول النيران تماثيل قاسم سليماني وصوره فقط، بل صور خامنئي والخميني، وبات الشبان والشابات أكثر جرأة في الدلالة على قصدهم إسقاط شرعية النظام، وذلك من خلال استهدافهم لفّات المعممين التي ترمز بوضوح لسلطة رجال الدين في المجتمع الإيراني. الموضوع إذن فيه تحدٍّ من نوع جديد، واللافت في الحراك الشعبي هذه المرّة وعي أصحابه والقائمين عليه لطبيعته وأهمّيته، فها هم شباب حراك طهران يطلقون على انتفاضتهم وصف الثورة. لعلّ الإحساس بالظلم هو ما يصنع الثورة أكثر من الظلم ذاته، ثم يأتي الوعي بضرورة الخلاص من الظلم حتى يصبح التحرّك ذا قيمة وجدوى. اعتبار الشباب الإيراني حراكهم ثورة ضدّ نظام الملالي يعني بالضرورة وعيهم لتبعات ذلك، فالثورة لن تتوقف عند مجرّد التظاهر في الشوارع، ولا عند حرق صور رموز النظام وتماثيلهم، فقد تنتقل الفعاليات إلى مستويات جديدة من التصعيد، وقد نشاهد إضرابات للعمال والموظفين، وقد نشاهد عصياناً مدنياً في النهاية.
استفاد الشعب الإيراني من مراكمة تجاربه عبر السنوات، فانتفاضة عام 2009 وانتفاضة عام 2019 من جهة، والدروس المستفادة من ربيع الشعوب العربية من جهة ثانية، كلها بلا شك ستعطي الإيرانيين تجارب حيّة للتعلّم منها. سيكون لهذه الانتفاضة/ الثورة مقتلان، نرجو الله ألا تُصاب بأيّ منهما، العسكرة والذهاب إلى العنف المسلّح، وانتظار الدعم الخارجي. فالعسكرة ستجرّ البلاد إلى حرب أهلية، وهي الميدان الذي يتفوّق فيه نظام الملالي باعتباره يقبض على مؤسسات الدولة كافة بما فيها الجيش والحرس الثوري والأجهزة الأمنية، كما أنّه قادر على استجلاب المليشيات الطائفية العابرة للحدود والتي تأتمر بأمره في اليمن والعراق وسورية ولبنان. أمّا التدخل الخارجي، فإنه وإن حصل، سيكون لصالح الدول والأطراف المتدخلة، لا لصالح الشعب الإيراني، وسورية خيرُ مثال حيّ.
سيكون لانتصار شابات وشبان الربيع الإيراني الثاني أثرٌ هائل على المنطقة، فإسقاط نظام العمائم والرعب القذر في طهران سيعطي دفعة قويّة لشعوب المنطقة، وسيعيد لها ثقتها بثوراتها وبمطالبها المُحقّة القائمة على أسس واضحة من حقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية والكرامة البشرية، كما أنّه سيؤثر بشكلٍ كبير على سلطات الأمر الواقع التي دعمها في المنطقة العربية، وسيشكّل هزّة كبيرة على المستوى الإقليمي وحتى الدولي، لن تفلت من تبعاته العلاقات الروسية الإيرانية المضطردة بالتوسّع والتعمّق. على العالم كلّه مناصرة الإيرانيين والإيرانيات في ثورتهم هذه، فقطع رأسٍ من رؤوس الشيطان، وولادة الربيع الإيراني الثاني من جديد مصلحة للبشرية جمعاء وليس فقط للشعب الإيراني.
المصدر: العربي الجديد