عبدالناصر العايد
منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا، قبل ستة أشهر، تصاعد الدعم العسكري الغربي لكييف، من توفير مساعدات غير فتاكة، إلى بذل كميات كبيرة من الأسلحة النوعية قصيرة المدى، مثل صواريخ "ستينغر" المضادة للطائرات وصواريخ "جافلين" المضادة للدروع، والتي كان لها دور رئيسي في منع سقوط كييف وسيطرة القوات الروسيّة على كامل أوكرانيا، وصولاً إلى الدعم بالمنظومات المتعددة لصواريخ أرض/أرض والمدفعية بعيدة المدى، التي بدأت تلعب دوراً في كبح الغزو الروسي واجباره على التباطؤ.
الجديد الذي بدأت تتكشف معالمه، هو الدعم بالخطط والتنظيم، إذ يبدو جلياً أن القوات المسلحة الأوكرانية انتقلت من مرحلة التصدي الحماسي للغزاة، إلى اعتماد خطط ممنهجة عالية المستوى، وطويلة الأمد، ومدعومة بموارد غربية موثوقة وغير محدودة، هدفها النهائي إلحاق الهزيمة بروسيا، أو إخضاعها، ضمن مختبر قوة محدد، هو الأراضي الأوكرانية.
نشاهد ملامح التطور، أي قيادة عمليات وخطط الجيش الأوكراني من قبل قيادة غربية عالية المستوى والخبرة، في شبه جزيرة القرم. حيث تعرض هذا الجزء الذي احتلته روسيا العام ٢٠١٤، وجعلته منطلقاً لعمليات الدعم في معارك جنوب أوكرانيا، وقاعدة لشن الهجمات بعيدة المدى بالطيران وصواريخ "كروز"، لعدة ضربات، استهدفت القواعد وسلاسل الإمداد.
أحد تلك القواعد هي مطار "ساكي" العسكري، حيث دمرت ضربة استهدفته نحو ست طائرات من طرازي "ميغ ٣١" و"ميغ ٣٥" الحديثيين، فيما دمرت ضربات أخرى مخازن سلاح، وعدداً كبيراً من الجسور التي تربط شبه جزيرة القرم بباقي الأراضي الأوكرانية.
تستهدف هذه العمليات الضغط على أصول القوات الروسية وإعاقة عمليات الامداد وتعويض الخسائر في منطقة العمليات الكبرى المحتملة في خيرسون وميكولايف، التي لم يتردد الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلنسكي بالإعلان عن التجهيز لهجوم مضاد بهدف استعادتها، وطلب من السكان المحليين إخلاءها، ولم تتوقف عمليات القصف بالأسلحة الغربية بعيدة المدى حولها وداخلها، بحيث أصبحت بلا طرق إمداد تقريبا بعد تدمير الجسور الأربعة التي تؤدي إليها.
في الدونباس أيضاً، بدأ التقدم الروسي بالتباطؤ، حيث تقوم الأسلحة الغربية بتدمير سلاسل ونقاط الإمداد هناك، على نحو يعزل القوات على خط الجبهة عن عمقها العملياتي، لكن هذا الاستهداف يبدو من الدقة والمنهجية بحيث لا يمكن أن يكون بالاعتماد فقط على الخبرة الأوكرانية فقط، بل يوجد دعم من نوع ما يتكئ عليه، وخبرات متقدمة، واستراتيجية بأهداف دقيقة، مرحلياً وعلى المدى الطويل.
لم تتبن القوات الأوكرانية بشكل رسمي العمليات الأخيرة في القرم، وتولت الإعلان عنها صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، التي أفادت بأن القوات الخاصة الأوكرانية نفذت هجوم مطار "ساكي" من دون أن تكشف عن الأسلحة أو التكتيكات المستخدمة، وهي بلا شك تحتاج إلى تقنيات عالية واسلحة متقدمة.
المعطيات السابقة تشير إلى أن دول حلف شمال الأطلسي "ناتو"، الولايات المتحدة وبريطانيا على الأقل، منهمكة في الحرب الأوكرانية بشكل مباشر على ثلاثة أصعدة، الأول هو توفير أدق المعلومات الاستخباراتية عن القوات الروسية وتحركاتها على الأراضي الأوكرانية، والثاني هو وضع الخطط والاشراف عليها على المدى الطويل من قبل خبراء عسكريين غربيين، والثالث هو توفير الأسلحة والموارد الكافية لكل مرحلة من مراحل الصراع، وكل نوع من العمليات التي يخطط لها.
أي أن الغرب يغذي ويسلح ويقود الجيش الاوكراني، الذي تقع على كاهله مهمة وحيدة، هي خوض المعركة الميدانية، أو ما يتعارف عليه في الادبيات العسكرية بـ"الأقدام على الأرض".
والحال أن بوتين شن حربه على أوكرانيا لمنعها من الانضمام إلى "الناتو"، لكن مجريات الأشهر الستة الماضية حولت هذا البلد إلى ترس للحلف، ولا يمكن تخيل انفصالهما مجدداً. وأضحت وزارة الدفاع الأوكرانية وزارة دفاع أميركية/ بريطانية، حيث قدمت واشنطن مساعدات لها بما قيمته نحو عشرة مليارات دولار، وهو ضعف ميزانية الدفاع الأوكرانية سنة ٢٠٢١، وقدمت لندن كمية هائلة من الأسلحة والذخائر، والمساعدات اللوجستية والاستخباراتية الحاسمة، ولا أدل على ذلك من اعتماد معظم المراقبين للإيجاز اليومي الذي تذيعه الاستخبارات البريطانية كأكثر المصادر دقة ومصداقية لمجريات تلك الحرب.
نحن إذاً أمام حرب عالمية بكافة المقاييس سوى مقياس المكان، فالغرب مازال يشترط على الاوكرانيين عدم استهداف الأراضي الروسيّة بالأسلحة المقدمة له، وإبقاء النزاع محدوداً بالمختبر الاوكراني، واستنزاف روسيا، ومن قد يدعمها، في ذلك الحيز المعزول، عبر استهدافها بأحدث الأسلحة والتقنيات العسكرية الجديدة، وبتكاليف لا تكاد تذكر أمام التكلفة الروسية، سواء البشرية التي قدرها مدير الاستخبارات الأميركية بنحو ٦٠ ألف ضحية منها ١٥ ألف قتيل، أو الخسائر الاقتصادية المباشرة أو تلك التي تسببها العقوبات.
للوهلة الأولى تبدو نتائج هذه الحرب محسومة، فروسيا تذهب إلى فخ أفغاني جديد، لكن موسكو مازالت قادرة على تغيير طبيعة المعركة جذرياً، عبر توسيع ميدانها لتخرج عن النطاق الاوكراني الذي حشرت فيه، أو حتى دفعها إلى مستويات الخطر الكوني عبر استخدام أسلحة التدمير الشامل لشق طريقها إلى كييف.
ورغم أن هذا السيناريو أيضاً لن يوفر للكرملين النصر النهائي المأمول، إلا أن من شأنه إرباك وقلب الخطط الغربية التي تسير اليوم بهدوء وثقة. وبالعموم يمكن استخلاص نتيجة عامة موثوقة إلى حد بعيد من هذا التطور، هي أن الحرب ستطول كثيراً جداً.
المصدر: صحيفة المدن