عمر قدور
لحديث ملك الأردن إلى محطة CNN عن الشأن السوري وقع مختلف، فهو أتى بعد لقائه بالرئيس بايدن، وبدا في جزء منه تقريراً لتوجهات الإدارة الأمريكية، وفي الجزء المتمم مناقشةً لتلك التوجهات، وربما انتقاداً لتراخي الإدارة في وضعها موضع التنفيذ. النظام "بشار" باقٍ في السلطة؛ يقولها الملك كمن يكرر ما هو مفروغ منه، ليتابع بالقول أن الإبقاء على الوضع الحالي يعني استمرار العنف الذي يدفع ثمنه الشعب السوري، وأن الحل بالحوار وبحث ما يمكن فعله في ما يخص إعادة الإعمار والإصلاح السياسي. وربطاً بقضية اللاجئين يركز الملك عملياً على إعادة الإعمار، بالإشارة إلى عدم إمكانية عودتهم بسبب الدمار، لا بسبب وجود بشار في الحكم وتبعات بقائه.
بيت القصيد في ما سبق ما أكدته للملك لقاءاتُه في واشنطن، وخلاصته بقاء بشار من دون عجلة في التطبيع معه دولياً، الأمر الذي ينتقده الملك ضمناً بسبب عبء اللاجئين السوريين، وخوفاً من التداعيات الأمنية على بلاده في حال بقي الوضع السوري غير مستقر. وكان الملك، بناء على هذا الفهم المسبق، قد حثّ إدارة بايدن بحسب صحيفة "واشنطن بوست" على تشكيل مجموعة دولية بهدف الاتفاق على خريطة طريق للحل في سوريا، بحيث يضمن الحل استعادة سيادتها ووحدتها "مرة أخرى من دون التطرق إلى تغيير سياسي".
شكلياً، لا جديد في حديث الملك، فمسؤولو إدارة بايدن "وقبلها إدارة ترامب" تولوا بأنفسهم القول أنهم يريدون تغييراً في سلوك النظام لا تغييره. إعلان الموقف في حد ذاته لا يشرح السياسة الفعلية، فهو لا يمنع الإدارة الأمريكية من السعي إلى تغيير بشار وهي تعلن خلاف ذلك، والإعلان يبرر في المقابل الحد الأقصى من الليونة والتساهل الأمريكيين مع بشار وحلفائه. لذا تكتسب قراءة الملك أهمية بعد لقاءاته مع دوائر صنع القرار في واشنطن، فهو يدحض أوهام المتمسكين بوجود مكر أمريكي لم تظهر علائمه خلال السنوات الماضية!
والحقّ أن تصريحات الملك تؤكد ما بدأنا نرى مؤخراً مؤشرات عليه لجهة تأويل الموقف الأمريكي عملياً، بمعنى أن الغموض الذي يلف موقف إدارة بايدن من الشأن السوري راح يتبدد بشروحات يتولى تقديمها آخرون لا تنقصهم الثقة بفهمهم الموقف على حقيقته. لا نخطئ إذا اعتبرنا تعاطي إدارة بايدن مع التمديد لإدخال المساعدات الإنسانية عبر باب الهوى محطة رئيسية في شرح الموقف الأمريكي، فأوساط الإدارة احتفت بتمرير قرار محدود بمعبر واحد ولزمن قصير على أنه إنجاز لديبلوماسيتها، الاحتفاء الذي لا يمكن فهمه سوى كإشارة إيجابية إلى "الشريك" الروسي الذي التقطها على طريقته.
قبل عشرة أيام دشن مظلوم عبدي قائد قوات قسد حملة على وسائل التواصل عبر هاشتاغ يدعو إلى اعتراف دولي بالإدارة الذاتية الكردية في شمال شرق سوريا، والحملة أتت كأنما بناء على تخوفات من تخلي الإدارة الأمريكية عن التزاماتها إزاء الإدارة. كذلك فُهم سعي الإدارة تجاه باريس، واستقبال ماكرون ممثلين عنها. وكان مظلوم عبدي قبل شهرين من إطلاق الحملة قد صرح واثقاً بأن قوات التحالف باقية لتحقيق النصر على داعش ودعم الاستقرار وتمكين الإدارة الذاتية، غداة لقائه حينها مع وفد من وزارة الخارجية الأمريكية ضم ممثلة عن مجلس الأمن القومي.
إذاً، ثمة تغير أمريكي تتخوف منه الإدارة الذاتية، ولا يبدد مخاوفها موقف إدارة بايدن السلبي من الخصم التركي، فمن غير المؤكد على طول الخط أن ما يضر بأحد الخصمين ينفع الآخر تلقائياً. آخر ما اختُبرت به أنقرة كان قبل ثلاثة أيام، بمقتل اثنين من جنودها في الهجوم على عربة مدرعة. لم تُعرف الجهة المهاجمة، وبيان وزارة الدفاع أعلن قيامها بالرد على مصدر الهجوم، لكن بطريقة تطوّق الحادث وتتحاشى التصعيد.
التصعيد هو بأمر عمليات روسي، وقد طال العديد من مواقع النفوذ التركي، من دون أن يصل إلى حد تفجير ما يمكن تسميته بـ"اللاتهدئة" المستمرة منذ الإعداد لقمة بوتين-بايدن، حيث نُظر حينها للتصعيد المحدود كتمهيد روسي لها. لعلها الأمانة الروسية لقراءة المصطلح العجيب "مناطق خفض التصعيد"، وقبل مهاجمة الجنود الأتراك كانت الصواريخ والطائرات قد ارتكبت أكثر من مجزرة في حق المدنيين، خاصة في جبل الزاوية-إدلب بلا رد من الضامن التركي.
يتسلل بوتين من الشقاق الأمريكي-التركي للضغط على أردوغان، ولتكريس عدم التهدئة كواقع مستمر يهدد النفوذ التركي، ويفاقم الأزمة الإنسانية على نحو متواصل، وينذر الإدارة الذاتية بأنها لن تكون خارج دائرة الاستهداف لاحقاً. لقد اختبرت موسكو "وأنقرة معها" وضعية مشابهة، غداة التدخل العسكري الروسي، عندما أخذت إدارة أوباما موقفاً منحازاً لموسكو على حساب أنقرة، وأدى ذلك إلى انعطافة تركية كبرى تجاه موسكو.
المفارقة هي في أن موسكو كانت تحسب حساباً لمزاجية ترامب في حين أنها مرتاحة الآن لسياسة بايدن التي تستطيع قراءتها جيداً، و"فرادة" الوضع السوري في أنها كانت مقيّدة عندما كان ساكن البيت الأبيض محسوباً كصديق لبوتين وهي مرتاحة مع الرئيس الحالي الذي طالما تعهد أثناء حملته الانتخابية بوضع حد للسلوك الروسي. ومن ضمن قراءتها لسياسة بايدن، تدرك موسكو عدم حماس واشنطن للغارات الإسرائيلية على المواقع الإيرانية في سوريا، وهذا ربما ما سهّل على وزارة الدفاع الروسية إصدار بيان إثر الغارات الأخيرة، تقول فيه أن نظاماً للصواريخ حصلت عليه مؤخراً قوات بشار تمكن من تدمير كافة الصواريخ المهاجمة، مع تسريب مفاده قيام الخبراء الروس بتشغيل النظام الجديد، بمعنى تصدي موسكو المباشر للغارات الإسرائيلية. مثل هذا "الاشتباك" كان ليستدعي ذهاب نتنياهو إلى موسكو فوراً لعدم تكراره، حيث كان يُستقبل على نحو خاص كشخصية شديدة التأثير في واشنطن.
طوال شهور من تسلمه الرئاسة وُجهت انتقادات لإدارة بايدن بسبب عدم وضعها سياسة سورية، لكن ما قاله الملك عبدالله الثاني في حديثه إلى محطة CNN كان آخر ترجمة لما سمعه واستنتجه من لقائه ببايدن وسواه من مسؤولي الإدارة. رأينا من قبل الترجمة الحربية الروسية لسياسة بايدن في سوريا، ومن المحتمل جداً أن نرى الترجمة الفارسية إذا نجحت مفاوضات الملف النووي.
المصدر: صحيفة "المدن" اللبنانية