عمر قدور
كأنما أتت إطلالة لونا الشبل التلفزيونية "المستشارة الخاصة في رئاسة الجمهورية"، قبل أربعة أيام، لتصب الزيت على نار خطاب بشار الأسد بعد أدائه القسم لولاية جديدة. يتضح من مستهل الحوار أنه أتى بطلب من المستشارة، وأنها آتية بغرض شرح الخطاب للذين لم يفهموه، أو الذين يعزّ عليهم فهمه كما هو حقاً. من أولئك الذين يعزّ عليه الفهم شريحة من الموالين كانت تنتظر من رئيسها تقديم وعود ضرورية للخروج من الأزمة المعيشية الخانقة، إلا أن هذه الشريحة لم تحصل سوى على كلام عمومي عن الصمود وتجاوز الأزمة. للونا الشبل رأي أكثر جذرية وحسماً، فهي تساءلت في مستهل اللقاء: إذا كان من المنتظر أن الرئيس الأسد سيعِد.. سأسألك متى وعد الرئيس الأسد بشيء؟ الرئيس الأسد يقدّم رؤيا.. بحياته ما قدّم وعود.. منذ خطاب القسم الأول قال ليس لدي عصا سحرية.
لندع جانباً السخرية التي يثيرها وصف "رئيس" بأنه لم يقدّم وعوداً خلال أكثر من عقدين لأنه يقدّم رؤى، بينما يُفترض أن تقوم الممارسة السياسية على تقديم الوعود والبرامج المتصلة بتنفيذها. الفكرة الأساسية هي ألا ينتظر أحد وعوداً، ومن لم يفهمها من الخطاب أتت المستشارة لتفهمه إياها ببطء وتمهل. ويبدو أن إطلالة المستشارة على هذا النحو حرّضت نقمة بعض الموالين فأظهروا غضبهم على وسائل التواصل الاجتماعي، ومن بينهم حظي صحافي وسيناريست بانتباه خاص لأنه بدأ برسالة لونا الشبل التلفزيونية، ليصل إلى القول: "كنت خائفاً على الرئيس.. ولكنني الآن بتّ خائفاً منه".
قبله كان شاعر معروف صدم الكثيرين بموالاته عندما انطلقت الثورة، بل بمغالاته وفظاظته بإظهار موالاته، قد كتب أيضاً على صفحته في فايسبوك مطالباً "المهاجرين" إلى بلاد البشر-البشر البشر بعدم التحامق والعودة إلى سوريا. الشاعر كتب بعمومية إذا شئنا المقارنة مع السيناريست، ولم يذهب إلى تحديد المسؤول عن كارثة البلاد "الجميلة فقط للتذكر والحنين"، وأقصى ما وصل إليه ذكر رؤساء ورئيسات بلديات مترعة بالأوبئة والنتانة. إنه على أية حال يخالف الخطاب الموالي التقليدي الذي إما أن يخوّن اللاجئين "اللاجئين لا المهاجرين بحسب الشاعر"، أو يشيد بالجزء الموالي المهاجر حقاً.
تلقف معارضون كتابتي الشاعر والسيناريست بحفاوة يمكن تأويلها على أكثر من وجه، فمن جهة هناك حفاوة بأن يصل بعض من الرموز الثقافية للموالاة إلى القناعة بأنهم خاضعون لسلطة لم يعد الدفاع عنها ممكناً، ومن جهة أخرى هناك الحفاوة الممزوجة بالشماتة بسبب وصول هؤلاء متأخرين سنوات إلى القناعة التي عبّر عنها ملايين السوريين الذين ثاروا على الأسد. ثمة من احتفى بهما لأنه يتحين أدنى اختراق في مقلب الموالين، وثمة من يأمل أن تكون هذه البداية فحسب لنشهد لاحقاً انقلاباً معلناً في مزاج من كانوا موالين أشداء، وثمة من رأى في الاسمين وكتابات أخرى غاضبة لأشخاص غير معروفين مؤشراً كافياً على أن النقمة تجاوزت فعلاً مرحلة البداية.
يصادف أن يكتب السيناريست، قبل يومين من إبداء خوفه من الأسد لا خوفه عليه، هذا البوست: "سألعن سلالاتكم يا ثوار الثورة السورية ما حييت.. أشعلتم الحرائق.. ونحن الذين انتهينا". وفي مخاطبته ثوار الثورة السورية يظهر أكثر جذرية، فهو لا يقتصر على تحميلهم المسؤولية عن حال الموالين، بل يجزم بأنه سيلعنهم ما بقي حياً، بينما تبقى علاقته برئيسه ظرفية متقلبة، يخاف عليه ثم يخاف منه، وقد يعود عن خوفه الثاني إلى الأول وربما إلى ما يفوقه حميمية. المهم في هذا السياق ليست المقارنة بين رئيسه والثوار، بل اتهام الثوار وذلك الحنين الذي لا يخفى إلى زمن ما قبل الثورة، الزمن الجميل الذي خربه هؤلاء.
الجمع بين الخوف من الأسد ولعن الثوار وسلالالتهم نموذج يجدر التوقف عنده بصرف النظر عن صاحبه، فعقدة عام2011 تطل لتبقي الوعي الموالي أسير زمن جميل والرغبة في استعادته. وفق هذا المتخيَّل، انقض إرهابيون "أو أية تسمية أخرى" على الزمن الذي كان قبل آذار2011، وهو زمن كان مقبولاً في حده الأدنى وفق مقولة "لا يموت الذئب ولا يفنى الغنم"، حتى لو فني عدد "مقبول" من الغنم قرباناً لبقاء الذئب. القضية ليست في تبرئة مسبقة للأسد وأبيه من قبله، بل في رمي المسؤولية بأكملها على أولئك "الثوار"، من دون الخروج ولو قليلاً من المنطق المراهق لتقاذف المسؤوليات، الخروج الذي يتيح رؤية الثورة كحدث تاريخي يعبّر بمجرد حدوثه عن انقضاء حقبة، وعن استنفاذ تلك الحقبة أسباب استمرارها.
وفهم أحقية الثورة كتعبير عن انسداد الأفق شأن مختلف عن الانحياز لها، أو عن الاتفاق مع مساراتها أو أخطاء ثوارها أو خطاياهم. الفهم إقرار بأن "الزمن الجميل" أكذوبة أفضت إلى الزلزال، وعليه لا يجب أن يكون استرجاعه هدفاً، وفي المقابل ليس مطلوباً من هذا الفهم تمجيد لحظة2011، بل البناء عليها كحدث قاسٍ يستحيل النكوص عنه. أيضاً من طبيعة هذا الفهم الاعترافُ بأن "الثورة" تعبير عن انقسام مجتمعي حاد، والمصيبة السورية هي في الانقسام بخلاف ما تفترضه نظرياً مصالح كافة الأطراف.
من الجهة الأخرى، هناك خطأ شائع بقراءة نقمة الموالين كالتحاق متأخر بعام2011، وعلى هذا المقلب هناك كثر ممن بقوا في تاريخ مضى عليه عشر سنوات لأنهم يرون فيه زمنهم الجميل. الأمل بأن يلتحق الموالي بذلك التاريخ أو اليأس من التحاقه به يستبعد بطبيعته اقتراحات أخرى، ويطوي مراحل قد لا تُطوى سريعاً في الواقع. من ذلك وصول شريحة واسعة من الموالين إلى اليأس المطلق، والذي سيتجلى بدايةً بأشكال متعددة تتراوح بين الهجرة أو محاولة الهجرة وصولاً إلى أنماط من الجرائم محرّكها المشترك البحث عن خلاص فردي. وهناك تأثير مثبِّط للزمن وللفعل لا ينبغي نكرانه، هو انتظار السوريين جميعاً ما ستقرره الدول الفاعلة والمحتلة.
لزمن قد يطول، إذا بقي تقاسم النفوذ الحالي، يصعب تصور حراك سوري جديد، هنا أو هناك، أو يجمع الهُنا والهُناك. يصعب أيضاً اتخاذ كتابات "نزقة" لسيناريست أو لشاعر كمؤشر على وضع الموالين، إلا باعتبار هذه الكتابات متأخرة عن الواقع لا أمامه كما يفترض التصور التقليدي عن "النخبة". في مرحلة تقطيع الوقت هذه قد يكون المتاح الوحيد للسوريين هنا وهناك الانتباه جيداً إلى أين وصلت بهم الأحوال، فلا هم بأي معنى في عام2011 ولا قبله، ولا عزاء اليوم وفي المدى المنظور لأي طرف منهم.
المصدر: صحيفة "المدن" اللبنانية