فيصل القاسم
لا شك أن جائحة كورونا وما صاحبها من توقف جزئي وأحيانا كلي لمعظم اقتصاديات العالم لمدة تفوق العامين، قد تركت آثارا مدمرة على الاقتصاديات الغربية والعالم الثالث على حد سواء، إلا أن مظاهر الانهيار والتدهور الاقتصادي والمعيشي في الغرب وبقية دول المعمورة لم تظهر للعيان، إلا بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، ما أعطى الانطباع أن روسيا باتت مسؤولة عن المجاعات التي قد تضرب ملايين البشر في العالم النامي، وربما تزعزع أيضا الاقتصاديات الغربية القوية نفسها. وهذا قد أصبح واقعا يوميا اليوم.
ما الذي حدث بالضبط؟ كنا نتوقع أن الاقتصاد الروسي هو الذي سينهار تحت ضربات العقوبات الأوروبية والأمريكية، لكن الغريب أن العملة الروسية الروبل قد شهدت تحسنا بعد الضغوط الغربية لم تشهده في عز الازدهار الاقتصادي والمالي في روسيا، فبينما كان البعض يتوقع أن ينهار الروبل ويصبح بسعر التراب، عاد ليحلق وليصبح بشهادة صحيفة نيو يورك تايمز الأمريكية، أفضل العملات الدولية أداء في الآونة الأخيرة. وبينما بدأ التضخم ينال من الاقتصاديات الأوروبية وحتى القوية منها كالاقتصاد الألماني، نجد أن روسيا لا تعاني أي اضطرابات اقتصادية أو مالية واضحة، اللهم إذا استثنينا توقعات المؤسسات الغربية بأن الاقتصاد الروسي انكمش بنسبة اثني عشر بالمائة، وهي أخطر وأكبر نسبة منذ حوالي ثلاثة عقود.
وإذا صحت توقعات تلك المؤسسات فيما يخص مستقبل الاقتصاد الروسي فعلا، فلا شك أن روسيا ستواجه لاحقا اضطرابات كبرى، وأن تفاخرها اليوم بصمود الروبل وازدهاره ما هي سوى مظاهر خادعة، وأن وراء الأكمة ما وراءها فيما يخص مستقبل روسيا.
الأيام وحدها ستثبت ذلك أو عكسه، وسنعرف فيما بعد فيما إذا كان الإعلام الغربي يبالغ في تصوير الوضع الاقتصادي الروسي، أم إن توقعاته ستكون صحيحة وربما صادمة بالنسبة للروس، وكل من يقف معهم في هذه المواجهة التاريخية مع الغرب.
ولو تركنا مستقبل الاقتصاد الروسي للمستقبل وركزنا اليوم على وضع الاقتصاديات الغربية والأوروبية خاصة، لشاهدنا العجب العجاب، ففي الوقت الذي يرفع فيها الإعلام الغربي راية النصر على روسيا ويبشر بهزيمتها الساحقة في أوكرانيا والعالم، نجد أن أكبر المتضررين من الحرب في أوكرانيا هم الأوروبيون أنفسهم.
وحتى الأمريكيون يعانون أيضا من آثار التضخم الرهيب، لكن الأوروبيين هم الضحية الأولى للغزو الروسي لأوكرانيا دون أدنى شك.
ويظهر ذلك في بريطانيا قبل غيرها، ففي الوقت الذي يحمل فيه رئيس الوزراء البريطاني السلم بالعرض كما يقول المثل في تصديه لروسيا، نجد أن بلاده تعاني أخطر وأكبر أزمة معيشية واقتصادية منذ أربعين عاما، بشهادة الإعلام البريطاني نفسه.
لقد أعلنت الحكومة البريطانية مثلا أن نسبة التضخم قد قاربت العشرة بالمائة، وهي نسبة مرعبة بكل المقاييس في تاريخ بريطانيا الحديث، وقد بدأت تترك آثارها الرهيبة على مستوى المعيشة والحياة الاجتماعية في البلاد، فقد ارتفعت الأسعار بشكل مذهل وغير مسبوق، وصارت أسعار الوقود تقض مضاجع البريطانيين، لا بل إن بعضهم بدأ يفكر جديا بتخفيض عدد الوجبات اليومية بسبب غلاء الأسعار وتدني الرواتب.
وقد لاحظنا في الأيام الأخيرة كيف بدأت النقابات البريطانية تدعو إلى إضرابات عامة للمطالبة بتحسين الأجور، التي لم تعد كافية لدفع النفقات المتزايدة التي فرضها التضخم الرهيب.
ولو ذهبت إلى ألمانيا صاحبة أقوى اقتصاد أوروبي، لوجدت الأمر ذاته يتكرر هناك رغم البحبوحة الألمانية، فلا حديث للشعب الألماني منذ بدء الغزو الروسي لأوكرانيا سوى غلاء الأسعار وعدم قدرة الألمان على شراء حاجياتهم، التي كانوا يشترونها في السابق بسبب التضخم وجنون الأسعار. وينسحب ذلك على بقية أوروبا، فإذا كان الكبار يئنون تحت وطأة التضخم، فماذا عن الاقتصاديات الأوروبية الأخرى؛ كالاقتصاد اليوناني أو الإسباني أو البلغاري أو البولندي أو الإيطالي المضروب أصلا؟
أعلنت الحكومة البريطانية أن نسبة التضخم قد قاربت العشرة بالمائة، وهي نسبة مرعبة بكل المقاييس في تاريخ بريطانيا الحديث، وقد بدأت تترك آثارها الرهيبة على مستوى المعيشة والحياة الاجتماعية في البلاد
ما الذي يحدث؟ هل فعلا بدأت الحرب الأوكرانية تصيب الاقتصاديات الأوروبية في مقتل، إم إن هناك مخططا وتضليلا استراتيجيا يمارسه الروس والأمريكيون من وراء الستار ضد أوروبا كما يشيع أصحاب نظرية المؤامرة؟ هل تتآمر أمريكا مع روسيا ضد أوروبا فعلا، أم إن الأمريكيين والأوروبيين في خندق واحد في مواجهة الدب الروسي؟ الواضح حتى الآن أن أكبر المتضررين لا الأمريكيين ولا الروس، بل الأوروبيون، وهذا يؤكد شكوك الذين يشيعون بأن المستهدف من هذه الحرب هي أوروبا ولا أحد غيرها.
والحبل طبعا على الجرار، فإذا كانت أوروبا قد بدأت تتهاوى تحت تأثير الغزو الروسي لأوكرانيا، فما بالك بالدول النامية والعالم العربي الذي يعتمد حتى في قمحه وخبزه على روسيا وأوكرانيا؟ هل ستنهار دول بأكملها؟ ألم تعلن سيرلانكا عن إفلاسها وقبلها لبنان؟ من يستطيع تحمل أعباء التحولات الدولية القادمة؟
لكن في الآن ذاته، يستبعد كثيرون أن تكون أمريكا وروسيا في صف واحد ضد الأوروبيين، فقد تستهدف أمريكا أوروبا، لكنها تستهدف في الوقت نفسه روسيا وستدفع بها لاحقا إلى ربما التفكك أو الإفلاس، لهذا من الخطأ الفادح التبشير بانتصار الروس الآن، وعلينا الانتظار لأن مشوار الاستنزاف الأمريكي طويل، والأمور بخواتيمها.
ولا ننسى أن كل الانتخابات التي حصلت في الدول الآسيوية الكبرى في الآونة الأخيرة، تصب في صالح أمريكا التي تعتبر آسيا أكثر أهمية لها من أوروبا. بعبارة أخرى، فإن الجميع يسقط في الحضن الأمريكي تباعا.
وبناء على ذلك، يتوقع البعض ظهور نظام دولي جديد فعلا، لكن ليس كما تريد الصين وروسيا، بل سيكون مغايرا لكل التوقعات، فالنظام الجديد حسب بعض التوقعات لن تكون فيه لا الصين ولا روسيا ولا أوروبا كلها، بل فقط أمريكا وبريطانيا وربما أستراليا، وأن بقية القوى الدولية سيكون مصيرها التدهور والانكماش بما فيها الصين، التي حتى هذه اللحظة تلتزم بكل التحذيرات والتهديدات الأمريكية في موقفها من الصراع في أوكرانيا. ومن الغريب العجيب أن جائحة كورونا تلاشت في معظم دول العالم، لكنها عادت وبقوة إلى الصين.
فهل تطور الفيروس في الصين فعلا، أم إن جهة ما تستخدم سلاح الفيروسات ضد الصين في عملية تشكيل النظام الدولي الجديد، بدليل أن الصينيين عادوا ليلعقوا جراحهم ويغلقوا مدنهم ومصانعهم لمواجهة الوباء العائد إلى ديارهم بقوة؟
العالم إلى أين؟ هل ما نشهده من انهيارات واضطرابات تاريخية نتيجة طبيعية لجائحة كورونا ومن بعدها الغزو الروسي لأوكرانيا، أم إنها مقدمة لتحولات تاريخية وربما حروب عالمية مخطط لها منذ زمن بعيد لصياغة نظام جديد؟.
المصدر: القدس العربي