ساطع نور الدين
كأنه فيلم وثائقي قديم، صُوِّر منذ نحو عشرين أو ثلاثين أو حتى خمسين عاماً، أُدخلت عليه تعديلات تقنية طفيفة، شملت الاضاءة والألوان والصوت، بما يستجيب للحاجة الى التحديث والتنافس في سوق إعلامي هائل، لا مكان فيه لتلك المشاهد المحفوظة بالاسود والابيض.
إنها سوريا التي لم تتغير ولم تتبدل: مقدمة الفيلم لا تدع مجالا للشك أبداً. القاعة إختلفت بعض الشيء. إتسعت وإنيرت وخلت من القبة ومن المشغولات والمنمنمات الخشبية التي كانت تميز القاعة التاريخية المعروفة، وكانت تردد صدى الهتافات، التي لا تنسى، مثل هدير يسمع في معظم أرجاء دمشق.
إنه الشعب السوري نفسه الذي لم يمر عليه الزمن، المشاهد الاولى لا تحتمل الخطأ: لم يبذل المشاركون في العمل الوثائقي الراهن أي جهد، للتميز عن الشعب الكوري الشمالي العظيم، الذي كان ولا يزال يهتف ويصفق ويضحك ويبكي في وقت واحد، عندما يظهر البطل ليقسم اليمين وليتحدث بلغة لا لبس فيها، ولا ضحكة، إلا تلك التي يستدعيها الخروج عن النص.
أبطال الفيلم ما زالوا على حالهم أيضاً ، كأنهم خرجوا للتو من مخزن الوثائق الرسمية، للمناسبة المستعادة، التي زاد عدد حضورها هذه المرة، ما ضاعف حجم السؤال عن هوياتهم وأدوارهم ووظائفهم وإنتماءاتهم القومية والدينية والجغرافية. كان واضحاً أنهم يمثلون معظم محافظات سوريا و مختلف الباقين من أبنائها، بمن فيهم أولئك الذين وقعوا على المصالحات.
هي سوريا نفسها التي ينكر الكثيرون وجودها، والتي يرفض الكثيرون الاعتراف بأنها لم تتقدم قيد أنملة. ربما كانت الحرب مبرراً لبقائها في المكان والزمان نفسه. للنظام طقوسه وتقاليده وجمهوره الذي لا يمكن نفيه، ولا طبعا إدانته. والعينة التي وجدت في القاعة لم تكن سوى طليعة، باتت تمثل نصف السوريين على أقل تقدير سياسي. هؤلاء ليسوا مكرهين أو مجلوبين أو حتى حاقدين. هم مع الدولة التي لم يقم لها بديل، أو نظير، هم مع الرئيس الذي لا يعرفون سواه، ولا يطمئنون الى سواه.. ولا يقبلون التشكيك في قدراته السياسية والامنية ولا التبخيس من مواهبه الخطابية. والارجح أنهم لم يأتوا الى الاحتفال ولم يتابعوا البث التلفزيوني لكي يستمعوا الى الخطاب ويدققوا في المواقف والبرامج الوعود.
فيلم محزن جداً، لكنه واقعي جداً، كأي وثائقي يسجل ويعرض ويحدّث وقائع خمسين سنة مرت من عمر سوريا، بأقل من ساعتين، يتلبس بالمُشاهد شعور باليأس من أن قدرة سوريا على أن تخطو خطوة واحدة الى الإمام، حتى في الشكل، فكيف بالمحتوى الذي يرجع بالسوريين خطوات الى الوراء، ويجعل الحرب قدراً لا فكاك منه، سواء بالنسبة الى المقيمين او المنفيين، الذين أعيتهم الحيلة، ولم يجدوا في الفيلم سوى فرصة للردح المكرر والمضجر للنظام، والتذكير بعناصر تكوينه التي لا تقتصر على طائفة أو مذهب أو حزب، وعوامل سلوكه التي لا تعزى فقط إلى المحتل الروسي او الايراني.. متجاهلين جمهوره الذي لم يهتز يوماً، أمام صور الموت والخراب، والذي يحافظ على ثقته بالنظام، حتى ولو بلغت الرئاسة الحفيد نفسه.
لم تكن الدواعي السينمائية هي التي أملت هذا الاخراج والانتاج للفيلم. ثمة حرص على التاريخ، على الأعراف، كان يمكن تلمسه في جميع المشاهد. ربما كان أداء الرئيس ضعيفاً بعض الشيء، وخطابه كان مبهما قليلاً. لكن المشاركين في العمل، والناقدين له، الذين لا تزال تفصل بينهم مسافات شاسعة، كانوا هذه المرة هم، وليس الرئيس، الصناع الحقيقيون للتجربة السينمائية السورية الخالدة.
لا أمل في تطوير تلك التجربة، طالما ان السينمائيين السوريين، المقيمين والمنفيين على سوية واحدة، وطالما أن تلك الطقوس يمكن ان تكرر مرة كل سبع سنوات وبنجاح منقطع النظير.
المصدر: صحيفة "المدن" اللبنانية