بسام مقداد
في مروره الأخير من سوريا إلى ألمانيا في مطلع المأساة السورية، توقف الراحل الطيب تيزيني في مجلس حبيب صادق الثقافي وحدثنا على مدى ساعات عن لقاءاته مع حافظ الأسد. كان تاريخ سوريا هو الموضوع المفضل للأسد، وكانت تدوم الجلسات "التاريخية" أكثر من تسع ساعات أحياناً، على ما تسعفني الذاكرة. اللقاءات الطويلة لم تكن غريبة على الأسد، وهو الذي وصف أحد وزراء الخارجية الأميركيين دبلوماسيته ب"دبلوماسية المثانة المليئة".
طفت إلى السطح ذكرى حديث تيزيني عن جلساته "التاريخية" مع الأسد لدى متابعة المواقع الإعلامية الروسية ـــــ معارضة وموالية ــــــ وهي منهمكة في الحديث عن مقالة بوتين على الموقع الرسمي للرئاسة الروسية في 12 من الشهر الجاري بعنوان "عن الوحدة التاريخية للروس والأوكران". أكد بوتين في مقالته أن الروس والأوكران والبيلوروس هم شعب واحد في ثلاث دول. وشكل هذا التأكيد سبباً إضافياً لتذكر الحديث عن الأسد وشعاره الشهير "لبنان وسوريا شعب واحد في بلدين". ولا يزال اللبنانيون يتجرعون سمّ الأخوة مع نظام الأسد حتى الآن، وليس من فكاك منه إلا بفكاك سوريا من اللعنة التي حلت بها منذ أكثر من نصف قرن. وما تعني أخوة بوتين مع الأوكران، أجاد في وصفها الرئيس الأوكراني الآتي إلى السياسة من مسرحه الساخر الشهير "الحي 95" حين قال بأنها "أخوة هابيل وقابيل".
شعار حافظ الأسد لم يصمد لمحاكمة تاريخية أو منطقية بسيطة، بل ولم يرَ أحد من ضرورة لمثل هذه المحاكمة. فهو واحد من شعاراته الأبية على المنطق والعقل، على غرار "سوريا الأسد" و"الأسد إلى الأبد" و"الأسد أو لا أحد" وسواها من درر العقل التسلطي. ورسخ الأسد دعائم هذا الحكم على أنقاض لبنان وسوريا وأشلاء شعبيهما "الشقيقين" اللذين وحدتهما كوارث تحكمه وورثته بمصيرهما.
مطولة بوتين (5358 كلمة) تضمنت سيلاً من التواريخ وذكر المعارك الحربية المفصلية في تاريخ روسيا القديم، وتعرض حتى لتفسير إسم أوكرانيا ومنشأه، وقال بأنه إشتقاق من كلمة "طرف" (المنطقة الطرفية أو الحي الطرفي) في الروسية القديمة. وعاد بوتين ونشر في اليوم التالي، وعلى موقع الرئاسة الروسية الرسمي عينه، نص مقابلة معه على شاشة قناة التلفزة الرسمية الأولى شرح فيها ما أراد قوله في المقالة، ولماذا نشرها الآن، ولمن هي موجهة، وقال بأن نصه هو "أكثر من مقالة بقليل".
المقالات التي يكتبها بوتين في مناسبات تاريخية وسياسية محددة تنضوي جميعها في برنامج السلطة لفرض سرديتها للتاريخ الروسي، وحظر وجود أية رواية أخرى تختلف معها. المقالة السابقة للحالية كتبها بوتين في 22 حزيران/يونيو المنصرم في الأسبوعية الألمانية "Die Zeit"، وكرسها للسنوية ال80 لبداية غزو ألمانيا النازية للإتحاد السوفياتي. وسردية الكرملين لهذه الحرب تلتزم حرفية السردية السوفياتية، وتعتبر روايات الغرب والمؤرخين الروس الليبراليين لتاريخ هذه الحرب تشويهاً للتاريخ الحقيقي لها.
يخوض الكرملين حرباً ضارية ضد ما يسميه تشويه التاريخ، خاصة تاريخ الحرب العالمية الثانية ودور الإتحاد السوفياتي في النصر على النازية. وتتزايد منذ العام 2012 كمية القوانين التي تعاقب وجهات النظر البديلة لتاريخ الحقبة السوفياتية، كما يتزايد الضغط على المدافعين عن حقوق الإنسان وعلى الصحافيين، حسب صحيفة "Novaya" في نص بعنوان "جرائم ضد التاريخ. كيف تقيم روسيا احتكارها للماضي "الصحيح"" نشرته في 14 من الشهر الجاري. وقالت بأن الاتحاد الدولي لحقوق الإنسان أجرى تحليلاً كيف يحاربون في روسيا المنظمات والمؤرخين الذين يبحثون في موضوعات مزعجة للسلطة. وأشارت الصحيفة إلى أن الإتحاد نشر في حزيران/يونيو المنصرم تقريراً عن الجرائم ضد التاريخ في روسيا، أجرى فيه تحليلاً لإضطهاد العمل التاريخي العلمي عن جرائم النظام السوفياتي.
وترى الصحيفة أن الإستنتاجات الرئيسية للتقرير هي أن مقولة "التاريخ الصحيح" للإتحاد السوفياتي تستخدمها السلطة على نحو متزايد لشرعنة نفسها. ويشكل المسؤولون لهذه الغاية منظمات إجتماعية زائفة للدفاع عن الذاكرة التاريخية، ويقرون قوانين تسمح بالضغط على الباحثين المستقلين، ويجعلون مناقشة الماضي حكراً عليهم وحدهم. الموقف الرسمي من حرمة الماضي السوفياتي ترسخت في العام 2020 بعد إقرار التعديلات على الدستور التي أقرت فيها روسيا بأنها الخليفة الشرعية للإتحاد السوفياتي وحامية ذاكرة مآثر الحرب العالمية الثانية.
لكن نهج إحتكار التاريخ من قبل الدولة بدأ منذ إقرار قانون "الجمعيات العميلة للأجنبي" العام 2012 ، وأصبحت بموجبه الجمعية العاملة في توثيق الذاكرة عن ضحايا القمع السياسي في الإتحاد السوفياتي "Memoriale" وفروعها في المناطق "عميل أجنبي". كما أُدرج في القائمة عينها متحفٌ خاصٌ أُقيم في المنطقة التي كان يشغلها معسكر سوفياتي للمساجين المحكومين بالأشغال الشاقة في الأورال.
تتعقب الصحيفة كيف عاقبت السلطة عاملين في حقل التاريخ تجرأوا على تناول موضوعات والخروج بإستنتاجات لا تتفق مع رؤية إحتكار الدولة للتاريخ. أحدهم حُرم من الحصول على شهادة الدكتوراه لتناوله في أطروحته موضوع العسكريين السوفيات الذين انحازوا إلى جانب ألمانيا في الحرب العالمية الثانية. آخر من جامعة برلين، تم حظر كتبه في روسيا لمقارنته في أحد كتبه أعضاء حزب الكرملين "روسيا الموحدة" بالمتعاونين الأوكران مع الألمان خلال الحرب الثانية. ثالث تم تهديده برفع قضية جنائية ضده لدراسته مسالة القمع الستاليني بين 1930 و 1940. المؤرخ أندريه زوبوف (كانت له أكثر من إطلالة في "المدن") طُرد من معهد العلاقات الدولية لمقارنته ضم القرم بضم هتلر للنمسا العام 1938. محاكمة أحد مسؤولي متحف روسي لإنتقاده عمل الجمعية الروسية التاريخية العسكرية. محاكمة باحث في معهد علمي لقيامه بدراسة النظام السياسي في روسيا. طرد أستاذ جامعي من جامعة مدينة سيبيرية لتنظيمه رحلات تاريخية في المدينة التي كانت منفى للناشطين السياسيين الروس. محاكمة أستاذ جامعي آخر من جامعة قطبية لدراسته تهجير الألمان الروس من الإتحاد السوفياتي.
تلك عينة مختصرة من القائمة الطويلة التي نشرتها الصحيفة تعقيباً على تقرير الإتحاد الدولي لحقوق الإنسان، وأرادت من خلالها أن تبين الطرق التي يعتمدها الطغاة في محاربة الرأي المختلف عن سرديتهم لتاريخ بلدهم. وبعض ما جاء في العينة أعاد الذاكرة إلى الحقبة الأسدية في لبنان، حين كان أساتذة جامعيون مهددين دائماً بالملاحقة والطرد من الجامعة اللبنانية لوقوفهم ضد وجود قوات الأسد في لبنان.
المعلق في الصحيفة، والكاتبة السياسية الشهيرة يوليا لاتينينا التي غادرت روسيا العام 2017 هرباً من ملاحقات السلطة، عقبت على مقالة بوتين بقولها "هذه المقالة جزء من التاريخ، وليست محاولة لإعادة كتابته". وقالت بأن المقالة يمكن إيجازها بتعبيرين إثنين: ليس هناك من أوكرانيا، وهي مخلوق قبيح إخترعه أعداء روسيا من أجل تقسيمها.
من وجهة نظر علم التاريخ تقسم بلدان العالم برأيها إلى البلدان التي تُكتب فيها النصوص التاريخية بأمر من السلطة، والبلدان التي يكتب فيها النصوص التاريخية أشخاص ليسوا في السلطة. فكل تاريخ الشرق القديم، من أشوريا إلى مصر، وصل إلينا في نصوص مطابقة لنص بوتين. هذه النصوص كتبها على جدران القصور والمعابد أيديولوجيون رسميون بإسم الملك الحاكم وتروي التاريخ كما يراه هو.
وتقول الكاتبة بأنه يبدو واضحاً من المقالة أن بوتين يعتبر أوكرانيا "سوء فهم تاريخي"، تماماً كما أعلن مولوتوف سابقاً بولونيا "مولوداً قبيحاً" لمعاهدة فرساي. وتؤكد أن بوتين قال لجورج بوش العام 2008 "أنت تعرف يا جورج أن أوكرانيا ليست حتى دولة"، وإذا ما حاولت اللادولة هذه الدخول في الناتو فسوف تكف عن الوجود.
ما قاله بوتين لجورج بوش، قاله ويقوله الأسديون وأتباعهم، وليسوا وحدهم، كل يوم بأن لبنان ليس دولة، بل هو دولة ـمصطنعة وشوكة في خاصرة سوريا.
ولع الطغاة بالتاريخ كان منذ الشرق القديم جزءاً لا يتجزأ من طغيانهم، وأداة لفرض تحكمهم ليس بحاضر شعوب"هم" فحسب، بل وبماضيها أيضاً.
المصدر: صحيفة "المدن" اللبنانية