العقيد عبد الجبار العكيدي
مثلما خرج رفعت الأسد من سوريا عبر تسويات غامضة مشبوهة، بعد ارتكابه الكثير من الجرائم بحق الشعب السوري، ها هو يعود بعد أربعة عقود مع صدور حكم قضائي فرنسي ضده بتهم تتعلق بالفساد والاحتيال، إضافة لتهم أخرى يجري العمل عليها في محاكم سويسرية وإسبانية ودول أوربية آخرى.
تنمّ حيثيات التعامل مع مجرم كبير مثل رفعت الأسد، بالنسبة للجهات المعنية في أوروبا والعالم، عن تداخل مأزوم بين المسار القانوني من جهة، والتطورات السياسية والأمنية من جهة آخرى، كما هو واضح من تفاعلات خروجه من فرنسا.
قد لا يكون مستغرباً عودة مجرم كرفعت الأسد إلى بيئته الطبيعية الخصبة، باعتباره أحد رموز عائلة باتت ذات تاريخ وحاضر متميزين بالإجرام، لكن المستغرب أن يفلت مثل هذا المجرم من بلد يفترض أنه يحترم القانون ويتغنى بقيم الحرية والعدالة، وأن يُسمح لمجرم مدان بحكم قضائي بالسجن أربعة أعوام بمغادرة البلاد هكذا بكل بساطة، بينما من البديهي أن يوضع تحت الحراسة القضائية، ويُمنع من مغادرة مكان اقامته.
رفعت الأسد الذي كان العصا الغليظة بيد شقيقه الأكبر حافظ عندما كان يضرب به كل خصومه ومنافسيه، منذ ما قبل استيلائه على السلطة في سوريا بانقلاب عسكري في تشرين الثاني/نوفمبر 1970، فاستخدمه ضد كثيرين ومنهم صلاح جديد، نور الدين الأتاسي، محمد عمران، عبد الكريم الجندي وغيرهم، من أجل التمهيد لحكم الأسد بعد أن ألحقه بالجيش في وقت مبكر، وبالتالي فإن جرائمه لم تقتصر على مرحلة ما بعد الانقلاب فقط.
تفنن الأسد الأخ بارتكاب المجازر الفردية والجماعية بحق الشعب السوري الأعزل، والتي كان أبرزها بطبيعة الحال مجزرة سجن تدمر الشهيرة التي راح ضحيتها حوالي 1000 من المعتقلين العزل عام 1980، ومجزرة حماة عام 1982، التي قُتل فيها أكثر من 45000 من أهالي مدينة حماة، أغلبهم من النساء والأطفال، وهي الجريمة التي كانت أشبه ما يكون بمذابح وجرائم محاكم التفتيش في الأندلس.. الأندلس نفسها التي قصدها رفعت وبنى فيها قصوره الفاخرة على سواحل مدينة ماربيلا الاسبانية على البحر الأبيض المتوسط بعد خروجه من سوريا في ربيع عام 1984.
لكنه قبل ذلك، ومنذ وصول حافظ الأسد إلى قيادة الجيش، مُنح رفعت صلاحيات للضرب خارج القانون، تمهيداً لتقدم شقيقه أكثر أو بسرعة أكبر نحو رأس هرم السلطة، مستفيداً من دمويته ونزوعه الشديد للتطرف الطائفي، فكُلّف باغتيلات وتصفيات وجرائم أخرى كان آخرها مذبحة حماة، بالاشتراك مع شفيق فياض قائد الفرقة الثالثة، وعلي حيدر قائد القوات الخاصة، الثلاثي الذين اعتمد عليهم حافظ الأسد في القضاء على انتفاضة الثمانينات.
بمرور الوقت ومع ترسّخ سلطة حافظ الأسد، ازدادت قوة رفعت ونفوذه في الجيش والأجهزة الأمنية، وتضاعفت شعبيته بين أفراد الطائفة العلوية، وخاصة لدى فرع (المرشدية) التي كان أبناؤها من ضباط وصف ضباط وأفراد، يشكلون العماد الأساسي لقوات سرايا الدفاع، هذا التشكيل العسكري الذي لم يكن يتبع لرئيس الأركان أو وزير الدفاع، لدرجة أنه كان متداولاً عند مرور موكب حافظ الأسد على أحد حواجز سرايا الدفاع، يقولون عنه هذا شقيق القائد رفعت، في إشارة لها دلالاتها.
ومعلوم أن هذه القوات قد شكلت رعباً حقيقياً للشارع السوري وعاثت فساداً في طول البلاد وعرضها، من خطف واعتقالات واغتصاب ونزع حجاب الفتيات في الشوارع والمدارس، وسلب لمؤسسات الدولة.
لم يكتف "القائد رفعت" كما كان يحلو لأتباعه ومؤيديه أن يسموه، بالسيطرة على الجيش والأمن، بل وسع نفوذه ليشمل السلك الدبلوماسي، ووزارتي التربية والتعليم العالي وأساتذة الجامعات، في رسالة للجميع بأنه وريث السلطة بعد شقيقه حافظ، الذي كان يعاني من مرض عضال توقع الكثيرون أن تكون وفاته بسببه قريبة.
لكن آمال رفعت بذلك خابت، فنجا حافظ الأسد من موت حتمى واستعاد عافيته، وخرج رفعت من سوريا بعد محاولة انقلاب عسكري فاشلة على شقيقه، بصفقة رعاها الاتحاد السوفياتي آنذاك، غادر على أثرها إلى موسكو وبرفقته عدد من ضباطه المقربين، واشترط ان يغادر معه كبار الضباط والمسؤولين المقربين من حافظ الأسد كرهائن خوفاً من تدبير عملية اغتيال في الطائرة، وهم (فاروق الشرع، محمد الخولي، شفيق فياض، إبراهيم الصافي)، ولم يكتفِ حينها بالسطو على البنك المركزي وأفرغه من كل العملات الصعبة، بل لم يقبل المغادرة الا بعد ان اتصل حافظ الأسد بالرئيس الليبي الراحل معمر القذافي وطلب منه مئتي مليون دولار نقدي دين على الدولة السورية منحها لشقيقه رفعت.
عاد الضباط والمسؤولين الى سوريا تباعاً، وغادر هو الى فرنسا مع حاشيته وحرسه ليبني إمبراطورته متنقلا بين فرنسا وإسبانيا، وعوضاً عن محاكمته ومحاسبته على الجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبها بحق الشعب السوري، تم تكريمه من قبل الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بأعلى وسام وطني فرنسي (وسام جوقة الشرف) عام 1986.
كثرت التحليلات والتأويلات والفرضيات حول ما إذا كانت عودته ذات أبعاد سياسية وسلطوية، بل إن هناك في المعارضة من يأمل بأن تشكل عودته خطأً يقضي على حكم آل الأسد، وجسراً للخلاص، لكن الواقع ان جزار حماة يعود اليوم مُلاحقاً مهزوماً وقد بلغ من العمر عتياً، هارباً من تنفيذ الحكم القضائي الفرنسي بحقه، باحثاً عن ملاذ آمن بعد أن أصبح تحت دائرة الضوء والمراقبة والخوف من رفع دعاوى قانونية أخرى بحقه.
يعود صاحب المليارات المنهوبة اليوم الى سوريا باحثاً عن أمنه الشخصي في الدرجة الأولى، لكن بدون أي قوة أو قاعدة أو أنياب، وهذه الأسلحة كلها كان الأسد الأب قد أجهز عليها فور خروج شقيقه من سوريا، حيث استبعد كل من يشكّ بولائه لرفعت من الجيش والأمن، ومن نجا منهم تداعى وتهالك بمرور الوقت وأصبح بعد مدة قصيرة خارج التأثير والحسابات.
ورغم أن هناك من يرى أن عودة رفعت يمكن أن تتسبب بحدوث انقسام وشرخ ضمن العائلة الحاكمة، لكن ذلك يبدو رأياً متهافتاً لا أكثر. فرغم أن الجانب العائلي على ما يبدو كان له دور أساسي في قبول بشار الأسد السماح لعمه بالعودة الى سوريا والعيش فيها ما تبقى من عمره، إلا أنه لولا تأكد بشار من أن عمه وأولاده لا يشكلون أي خطر من أي درجة عليه، لما قبل بعودتهم تحت أي ظرف، بل على العكس، ربما أراد الاستفادة من عودته لتعزيز تماسك العائلة والطائفة بعد الاضطراب الذي أصابهما جراء الخلاف مع ابن خاله رامي مخلوف.
من الواضح أيضاً أن بشار الأسد لن يضيّع فرصة الاستفادة من أموال عمه المتبقية لتعزيز قدرات النظام المالية المتهالكة، والحديث هنا يدور عن مئات ملايين الدولارات وربما المليارات التي بحوزته، رغم الحجز على بعضها، وهذه الفرضية يعززها واقع أن بعض أولاده موجودون في سوريا منذ سنوات ولديهم اليوم مشاريع تجارية واقتصادية وازنة.
لكن ذلك لا يعني أبداً طرح فرضية أن يشكل أولاده خطراً كمنافسين مستقبليين على السلطة، وهي فرضية تستحق النظر إلى حد ما، خاصة إذا ما أخذ بالاعتبار إمكانية توظيفهم الثروات التي بحوزتهم لشراء ولاءات في ظل واقع الفقر المدقع والحاجة الذي يسيطر على السوريين في مناطق النظام، وتزايد الغضب في حاضنة النظام جراء عجز حكومته عن تأمين أبسط متطلبات العيش، إلا أنها فرضية تبقى مع ذلك صعبة التحقق بالنظر إلى عدم وجود أي قاعدة لأبناء رفعت داخل أجهزة السلطة العسكرية والأمنية، وإذا كان والدهم الذي امتلك هذه القاعدة يوماً ما قد فشل في تحقيق طموحاته السياسية، فهل سيكون حظهم أوفر منه وهم على هذا الحال؟!
يمكن القول إن السماح لرفعت الأسد بالعودة الى سوريا، دليل واضح للقاصي والداني، على أن بشار الاسد جعل من سوريا مأوى للخارجين عن القانون والفارين من الاحكام القضائية، وهنا السؤال الذي يطرح نفسه: هل يمكن لرئيس النظام توفير ملاذ لمجرم كرفعت الأسد فار من حكم قضائي فرنسي إن لم يكن مستنداً على جهة دولية ليس بالضرورة أن تكون روسيا بل غيرها. وإن صح تهديد رفعت الأسد بأنه قال "لن أعاقب لوحدي بل سأجر أطرافاً وحكومات معي"، ألا يعني ذلك أن عودته قد تكون تمت ضمن صفقة فرنسية-روسية وربما بمشاركة دول آخرى. هذا ما ستبينه الأيام القادمة، ولن يوقف الجدل حول ذلك إلا مطالبة فرنسا باستعادته من خلال الإنتربول الدولي الذي أعاد قبل أيام دمج سوريا في نظامه لتبادل المعلومات، وأعاد فتح مكتبه في دمشق، وهو أمر لن يحدث بأي حال.
المصدر: صحيفة "المدن"