أحمد عمر
لم تكن القامشلي غايتي ومقصدي وإنما عامودا، وشتان بينهما، القامشلية - وهذا اسمها القديم الذي ورد في رواية "زوبك" لعزيز نسين أيضا - مدينة ملفقة، مسورة بنطاق عريض من الضواحي العشواء، القبيحة المحرومة من مرافق العيش وأعمال المدن، أما عامودا، فبلدة منظمة، منسقة، مصفوفة مثل تفاعيل قصيدة عمودية، لا عشوائيات فيها، تنجلي محاسن القامشلية قليلًا، بعد جامع قاسمو، وتبتسم عند أول الحديقة للقادم من عامودا. عجبت من أهل القامشلي الذين يحبونها ويصفونها بأنها مدينة الحب، هذا هو حال كل وطن، الناس تحب أوطانها، اخضرت أم اصفرّت، لكني أبغضها بشدة، فأسوأ ذكرياتي في القامشلي، إذ إني تعرضت إلى نشل عند نزولي في أول زيارة لها، وليس القصد من العنوان معارضة غسان كنفاني في قصته عائد إلى حيفا. يقال إنّ المجرم يعود إلى مكان جريمته من كل بد، الولادة جناية عند أبي العلاء المعري في بيت شهير له:
هذا جَنَاهُ أبي علـ /
يَّ وما جنيتُ على أحدْ.
أول علامات عبور حدود كردستان العراق إلى حدود الكيان الكردي الوليد الذي بلغ سنَّ الشباب والفتوة في كنف النظام السوري والعالمي هي صور الزعماء، لقد تغيّرت الصور المنصوبة العملاقة في الطرقات، من صور صاحب الكوفية إلى صور ضيق العينين، وقد تجد صوراً عملاقة للرئيس طويل الرقبة الذي اختار مربعًا أمنيًا (قليل الخضرة) ووكّل شؤون المراقبة والمعاقبة "بالفاغنر" الكردي.
سنمر في مستهل رحلتنا بحاجز حدودي كبير، عليه جند وموظفون، وتحجزه سواتر حجرية، وقفت أمامه سيارات كثيرة نحو المئة بانتظار فحص الوثائق وإجازة "الفيزا"، سنعبر من طريق مخصص للضيوف، معنا بطاقات صحفية ووثيقة توصية بحسن الرعاية، يصاحبني صحفي يدير قناة إذاعية معروفة ومحلية، قبل أن نعبر، سألتني صبية مجندة من "الهفافيل" الرفاق: عن كنيتي - وللغرابة كانت محجبة- وما إذا كان فلانًا المكنى بكنيتي يقربني، فأنكرت خشية من الألغام، وقلت: تشابه أسماء، وتذكرت معاوية بن أبي سفيان، إذ دخل الحاجب عليه، فقال: "يا أمير المؤمنين رجل في الباب يدعي أنه "أخوك"، فقال معاوية: "أبلغ بك الأمر ألا تعرف إخوتي؟ أدخله"، فلما دخل الرجل قال له معاوية: "أي إخوتي أنت؟"، قال: "أخوك من آدم" قال معاوية: "رحمٌ مقطوعة، والله لأكونن أول من وصلها". فقد تعلمت من الحواجز أن ممازحة الشرطة والأمن غير محمودة.
وجدت في وجوه حرس الحدود في كردستان العراق جفوة لم أجدها في وجوه فتية الكيان الكردي الناشئ، فهم فتية، ويبتسمون غالبًا ويرحبون بالقادمين، بل إنّ أغرب ما رأيته هو أنّ حقائبنا لحقت بنا في سيارة خاصة كما في المطارات العالمية. دخلت وسألت عن حقيبتي في الخيمة، فوجدتها بين الحقائب المقلوبة المبعثرة، ولم تضل سيارة الحقائب عنوانها المراد!
زرنا قرية من قرى لي أقارب فيها، فلم نجد سوى العجائز والشيوخ وشاب مشلول، قال لي صاحبي: هذا حال القرى، فهي خاوية على عروشها، سألنا الشاب المشلول عن طريقة مضمونة يسافر بها إلى أوروبا، فسكتنا، قال: إنهم هناك يكرمون ذوي الهمم.
قد تجد صورًا صغيرة لصاحب الكوفية بين صور ذي العينين الضيقتين، وطويل الرقبة العملاقة، على الطريق إلى القامشلي، سنعبر عدة حواجز، سريعًا.
يجيز الحاجز ويمنع، بحسب رغبة "العناصر"، ليس من قاعدة أو نص يفسر توقيف السيارة للتفتيش أو تركها، سنجد عند بلوغنا أول القامشلية، أنها قد أعدت للحرب، وأحيطت بسوار من الخنادق والسواتر الترابية، وأنّ الأنقاض كثيرة في الشوارع، فالعمران على أشده، والمال يتدفق من ريع الحواجز والغرامات والنفط والتجارة السوداء وتحويلات النازحين.. وأنّ ثمة ناطحات سحاب في القامشلي وعامودة التي لم يكن فيها سوى أبنية من طابقين إبان عهود الصبا، وهي قليلة، ولم يكن في عامودة في أيام الصبا سوى أربعة أبنية من الحجر؛ أبنية الحكومة، مبنى القائم مقام، والمخفرين، ومنزلين بناهما مهندس واحد، تربيين لوناً، الحجر يعني الثبات والرسوخ والصمود للزمن.
كانت حركة الناس على أشدها، والسابلة يحملون في أيديهم أكياسًا سوداء، كأنهم من فلم من الفنتازيا الفضائية، سألت صاحبي عنها، فقال:
مصاري، فلوس، فالعملة متورمة متضخمة، والمليون يحتاج إلى كيس لحمله، وقد يحتاج إلى عتال أو عربة بحسب طبقة العملة، قليلة خسيسة، أم رفيعة شريفة، وقد احتجنا إلى موعد وانتظار لدى صراف لصرف مئة دولار بالورقة ذات العشرة آلاف، أعظم فئات النقد السوري قدرًا وشرفًا، وتعادل ثلاثة أرباع الدولار.
شاخصات المحال مكتوبة بالسريانية والكردية والعربية. صورتُ أحد الخنادق بكاميرة هاتفي، فانبثق رجل من الغيب وسألني عن المنكر الذي ارتكبته، وأعلمني محذرًا بعد رؤية الصور أنّ التصوير ممنوع، والرزق على الله.
علمني صاحبي بكيد التصوير السري المختلس، عن جنب وهم لا يشعرون. الدرباسية كلها تقريبًا، شوارعًا وأسواقًا مخمّرة بصفائح توتياء، سألت عن علة تسقيف الشوارع والأسواق بها، فقيل لي إنها موضوعة بغرض سترها.
سألت لمَ لم نر هذا في عامودة أو القامشلي، فهما حدوديتان أيضًا، فلم أجد جوابًا. صفائح التوتياء عقوبة نكال لأهل البلدة، فهي تحبس الحرارة صيفًا، وتحجب جمال السماء بشمسها ونجومها وطيورها، وتقعقع عند سقوط المطر وهبوب الريح، فتزعج، كما أنها تحجب مشاهد الناس عن أعين أصحاب الطوابق العليا. لقد حولت الصفائح المدينة إلى صهريج ثابت.
دعانا مضيفنا إلى مائدة في أحد المطاعم، فأكلنا وشبعنا بما لذ و"كبّاب"، بكلفة تعادل خمسين دولارًا، النازحون في أوروبا يضخون المال لأقربائهم وذويهم، والأجور في الكيان الناشئ أفضل من أجور النظام البخسة ومن أجور دويلة إدلب أيضًا. لكني لم أسرّ بالزيارة قط، لم تعد الديار دياري، فهي غير الديار التي رحلت عنها، والأهل ليسوا بأهل، صدق فيها قول الشاعر:
لا أَنتَ أَنتَ وَلا الدِيارُ دِيارُ
خَفَّ الهَوى وَتَوَلَّتِ الأَوطارُ.
الوجوه غير الوجوه التي ألفتها، والشوارع مقلوبة، والأنقاض كثيرة، والخنادق وفيرة، عزمت على زيارة أحد أصدقاء أبي، قبل أن أرحل عن البلاد من غير نية للعودة، قرعت بابًا فخرج لي الرفاق "الهفافيل"، وعلمت أنهم صادروا بيته، لأن باب النفق الذي حفروه وافق بيته!
سألت عنه فدلوني على بيته الثاني، قرعت عليه الباب، فخرج مذعورًا، وحدقتاه تصغران ووجهه يصفر، سلمت عليه، دعاني للدخول، فدخلت، جلست، وبقي واقفًا على هيئة الخاشع المصلي، ساد صمت، قلت: ألم تعرفني؟ قال: لا. عرفته بنفسي، فانفرجت أساريره وأشرقت غضون جبينه، وعانقني من جديد، قال: ظننتك مخابرات.
المصدر: تلفزيون سوريا