لطفي العبيدي
البشرية تواجه مصاعب هائلة لطالما أعاقت طريق الحق والعدالة. والأحداث والتوترات في الشرق الأوسط، تجعل من غزة اليوم عقدة التوتر الإقليمي الأكثر وضوحا. وما يبدو حاليا أخبارا عن خطط ما للمستقبل بشأن غزة أو غيرها من الأراضي الفلسطينية المحتلة، هو في الأصل ركن رئيسي من أركان ماضي إسرائيل الاستعماري الإحلالي تواصل تقديمه في كل مرة بنفس الطريقة.
هم صنعوا ذلك ويريدون نشر مزيد من الفوضى، ولكن في خضم هذه الأحداث لا يمكن أن نتغافل عن مسبباتها غير المعلنة، والتي قد يكون من بينها أهمية دور اكتشاف حقول الغاز على سواحل غزة سنة 2000 في السياسة الإسرائيلية ضد القطاع المتواصلة إلى اليوم، وكيف أصبحت محاصرته وإغلاقه وتحويله إلى محتشد كبير، جزءا رئيسيا من المصلحة الاقتصادية الصهيونية، ومن ثم محاولة ابادة أهله وتهجيرهم، والرغبة في إعادة احتلاله أو تسليمه للعملاء والمطيعين الموالين لأمريكا ولكيانها المغتصب للأرض.
إن التهجير جزء أساسي من إرادة التطهير العرقي وسياساته بالنسبة لكيان الاحتلال، لذلك لا يمكن النظر إلى إسرائيل كمشروع سياسي قومي، دون هذا المكون التأسيسي. إسرائيل تعني إبادة الفلسطينيين، وحقها في الوجود يعني ببساطة حقها في التطهير العرقي. هذا هو جوهر التفكير الصهيوني منذ التأسيس، والذي لقي بعد ذلك مساندة متواصلة وحضن أمريكي لا محدود. قبل 1969، كانت الأوساط الرسمية الأمريكية تنظر بموضوعية أكبر للصراع العربي الإسرائيلي، وقد وضعها ذلك في توترات مع السياسيين الإسرائيليين، والأمر لم يقف عند لحظة اغتيال الرئيس الأمريكي كينيدي. لقد حصل ذلك عبر مسارين: مسار تأثير اللوبي الصهيوني الذي تمثله اليوم منظمة «أيباك» التي تستفيد من ترسانة معقدة وفعالة من أدوات التأثير في كافة المؤسسات، وحتى مراكز القرار. وعبر دور الصهيونية المسيحية التي نجحت في تثبيت وسائل دعاية وتأثير بالغة القوة على الرأي العام. وهو المسار الثاني الذي أطلقه المبشرون الطهوريون منذ نهاية القرن التاسع عشر. والنتيجة أن عشرات الملايين من الأمريكيين أصبحوا على امتداد العقود الماضية يساندون إسرائيل من دون تحفظ، ويتوقعون منها مواصلة سياستها المتطرفة ضد العالم العربي وضد الفلسطينيين. وتأتي هذه المجموعة من الناس بالمال الذي ساعد في وصول جورج بوش الابن وغيره إلى البيت الأبيض، ويتمثل أعضاؤها في كل اللجان المهمة في الكابيتول وفي وسائل الإعلام الأمريكية.
ومنذ اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الثانية ومعظم الكنائس التي تتبع هذا المعتقد تعتبر التطوع في إسرائيل إلزاميا. هل تغير شيء اليوم بعد حرب الإبادة على غزة لدى الرأي العام الأمريكي؟ يمكن أن نرى تفاعل الجماهير وتظاهرها ضد العنف والقتل الذي تمارسه إسرائيل، ورفض المحتجين المساندة الأمريكية المطلقة لها. لكن بالنتائج لم يحصل تغير حقيقي وملموس لدى الإدارة الأمريكية على نحو إيقاف الحرب أو تقليل المساعدة العسكرية للكيان الصهيوني، ناهيك من الدعم المطلق في الهياكل الأممية، وتعطيل مسار وإجماع الشرعية الدولية في مجلس الأمن وفي غيره من منابر «الفيتو» وازدواجية المعايير.
المفكر الإسرائيلي، إيلان بابي، في تحليله لمسار السياسة الأمريكية تجاه العرب وإسرائيل منذ سنة 1948، يقول شيئا مهما عندما يشير إلى أن المساندة المطلقة الحالية للكيان الصهيوني في الولايات المتحدة تطورت ببطء وبسبب عوامل تاريخية معقدة، ولم تصبح أمرا واقعا ونهائيا وتاما إلا في أواخر ستينيات القرن الماضي. يحلل بابي نشأة فكرة التهجير «الترانسفير»، ويرى أنها مرتبطة بالإيديولوجيا الصهيونية منذ اليوم الأول لنشأتها. لقد تحدث هرتزل نفسه عن ذلك عندما قال: بعد احتلال الأرض ومصادرة الملكيات الخاصة علينا أن نسعى لطرد السكان الفقراء عبر الحدود من دون أن يلاحظ أحد ذلك، ونوفر لهم في دول العبور التوظيف الذي نمنعه عليهم في دولتنا. يجب تنفيذ كل من عملية المصادرة واجتثاث الفقراء سرا وباحتراس. وقد طبق الأمر باستمرار منذ 1948 حتى اليوم.
في السياق ذاته، يفضح تشومسكي مقولة الديمقراطية الغربية، حيث يبين أن الاعتداءات الكبرى على القطاع، والتصاعد في استعمال وسائل الإبادة، بل وزيادة حجم الدعم الأمريكي بالخصوص، قد تزامنت كلها مع انتصار حماس في انتخابات 2006 بعد فك ارتباط إسرائيل بالقطاع وانسحابها منه. لقد كان ذلك الانتصار تحولا مفصليا في الساحة الفلسطينية، حيث لم تكن الولايات المتحدة وأوروبا وإسرائيل مستعدة لرؤية فتح تخسر على الميدان إزاء حماس، بعد أن وقع القيام بكل شيء من أجل جعلها، عبر منظمة التحرير، الطرف المقابل الذي يمسك بالقرار الفلسطيني ويمثل بمفرده، وإلى الأبد ودون مراعاة أي اعتبارات أخرى، الفلسطينيين. لقد كان الأمر متعلقا برؤية استثمار يتهاوى، وتحولات غير مرغوبة في خارطة الصراع انطلقت منذ هزيمة «جيش الدفاع» أمام المقاومة الإسلامية في لبنان في حزيران/ يونيو 2006.
ما من شك أن أمريكا تصنع التوتر في كل مناطق العالم، فالتعامل اليوم مع أوكرانيا كجزء من المواجهة بين الشرق والغرب من شأنه أن يفسد لعقود أي احتمال لإدخال روسيا والغرب عموما، وروسيا وأوروبا خصوصا في نظام دولي تعاوني. كذلك الأمر بالنسبة إلى ما يفعلونه في فلسطين، ودعم الغرب الأمريكي لحرب الإبادة والتهجير في غزة. كلها مؤشرات تزيد من نسب الكراهية وتمنع التقارب الإنساني. مشهد عالمي يدفع باتجاه مزيد تأزّم العلاقات الدولية، ويركن إلى سياسات توسعية همها المضي قدما في منطق عزل الشعوب عن بعضها البعض وتفكيك نسيجها القومي وفق منهج استعماري قديم. وعملهم الإجرامي مكشوف الملامح منذ بدايات إشعالهم الحروب في الشرق الأوسط عامة كما في أفغانستان وجورجيا ومقدونيا والشيشان ويوغسلافيا وغيرها من بؤر التوتر. فالحروب في كوريا وفيتنام والعراق وأفغانستان أسفرت عن موت وتشريد واستئصال الملايين من البشر. وعلاوة على ذلك، هناك الكثير من الأمثلة غير الرائجة عن مساعدة الولايات المتحدة لتنصيب قادتها المفضلين في بلدان الخارج. لقد فرضت أثناء الحرب الباردة تغييرات في النظام الحاكم في إيران وغواتيمالا وجمهورية الكونغو الديمقراطية وغيانا البريطانية وجنوب فيتنام وبوليفيا والبرازيل وبنما وإندونيسيا وسوريا وتشيلي. في الأثناء، الصدامات الكبرى التي لديها القابلية لأن تنتج معارك دبابات لم تشاهد منذ الحرب العالمية الثانية، مثل أوكرانيا، لا تحدث عرضا. بل هناك سبب وهناك أثر، كذلك الشأن في توتير المشهد الشرق أوسطي، ووضعه على شفا حرب إقليمية شاملة. في وقت تنامت فيه الحاجة إلى تأمين مصادر الطاقة للعمليات العسكرية والإنتاج الصناعي، وتنافست القوى الكبرى في الصراع على هذه الثروات. وهي مسارات ذات تأثير، تتعاظم أبعادها الجيوستراتيجية، على خريطة التحالفات في منطقة الشرق الأوسط.
في المحصلة، الاعتقاد الدولي السائد لتصرفات الولايات المتحدة القاسية باستخدام قوتها العسكرية يضعها في مصاف الدولة المارقة الأولى، وبمشاركتها حرب الإبادة مع كيانها الاجرامي تضع نفسها دون مراتب الأخلاق الإنسانية في نظر معظم الشعوب وأحرار العالم.
المصدر: القدس العربي