علي أسمر
الاعتداء على دور العبادة ليس بالجديد في التاريخ التركي حيث حاولت بعض القوى الغربية على مدار التاريخ بين الحين والآخر النيل من القيم والمقدسات لإشعال الفتن الداخلية، وإرسال رسائل غير مباشرة، بأن تركيا غير آمنة، وأن بعض القوى قادرة على استهداف تركيا بعقر دارها، كيف تشاء، ومتى تشاء، وهنا يجب أن نفهم أسباب هذه العمليات الاستفزازية التي ليس لها أي ثقل على أرض الواقع.
من أسباب استهداف تركيا بهذه العمليات الاستفزازية هو الفشل الذريع لبعض أجهزة المخابرات الأجنبية داخل تركيا مؤخرا، حيث شهدنا كيف استطاع جهاز المخابرات التركية إفشال مخططات جهاز الاستخبارات الإسرائيلي الموساد، وليس مرة واحدة بل عدة مرات متتالية، وشهدنا أيضا تفكيك الكثير من خلايا وجواسيس الموساد التي كان تظن أن تركيا ساحة سهلة لممارسة الألعاب الاستخباراتية، ولكن أصيب جهاز الموساد بالصدمة بعد توالي أخبار اعتقال مجموعات تابعة له كانت تخطط لتجسس ولاغتيال بعض الشخصيات، ولا سيما بعد عملية طوفان الأقصى، وعندما اقتنعت هذه الأجهزة الاستخباراتية بفشلها قامت بتحريك عملائها من شتى التنظيمات الإرهابية، لكي تحفظ ماء وجهها، ولكي تحاول أن تخلق فوضى داخل الشارع التركي، والاعتداء على الكنيسة الإيطالية قيل أيام قليلة في إسطنبول من قبل تنظيم داعش، وهو دليل واضح على إفلاس هذه القوى التي لا تحترم لا عادات، ولا تقاليد، ولا أماكن مقدسة، ولكن عندما استطاع الأمن التركي القبض على منفذي الهجوم أصيبت هذه القوى بخيبة أمل أكبر، والاعتداء على إمام جامع الفاتح في إسطنبول قبل أسابيع، اعتداء غير منفصل عما حصل في الكنيسة الإيطالية في إسطنبول فكل هذه الحركات هي حركات استخباراتية هدفها نشر الذعر والفوضى داخل تركيا.
من جانب آخر، أعتقد أن من أهداف هجوم الكنيسة أيضا هو توتير العلاقات التركية الغربية حيث إن توقيت الهجوم على الكنيسة الإيطالية التي كان يوجد بها السفير البولندي، يأتي بعد زيارة هامة لرئيسة الوزراء الإيطالية جورجينا ميلوني إلى تركيا حيث وصفت الزيارة بالبناءة والإيجابية، وصرحت أيضا بأهمية حقوق الشعب الفلسطيني، وهذا ما أزعج إسرائيل، وأيضا إذا لاحظنا هذا الهجوم أتى بعد موافقة تركيا على انضمام السويد لحلف الناتو، وهذا أيضا له دلائل مهمة، حيث إن الجو الإيجابي لتركيا مع دول الاتحاد الأوروبي لم يرق لبعض القوى، ولذلك تحاول زعزعة الثقة الأوروبية بتركيا عبر هذه الحركات المستفزة غير المسؤولة التي من الممكن أن تعقد المشهد، فتركيا دولة فعالة في حلف الناتو، وأي تصادم بين دول حلف الناتو لن يكون له آثار إيجابية على المنطقة.
نعلم جيدا أن موقع تركيا الجيوسياسي موقع غير عادي، لذلك تكافح تركيا كثير من القوى والتنظيمات الإرهابية كحزب العمال الكردستاني وتنظيم داعش وتنظيم غولن وبعض أجهزة الاستخبارات الأجنبية، ولهذا من الممكن أن يكون من أهداف هذه العمليات الاستفزازية، هو تشتيت دقة جهاز الأمن التركي وإشغاله عن الأمور الكبيرة، وهذا ما سيخدم عملاء الاستخبارات أكثر وأكثر داخل تركيا.
سيناريو داعش يتكرر مرة أخرة، حيث كلما أرادت تركيا مكافحة حزب العمال الكردستاني تخرج لنا داعش، وكلما فكرت الولايات المتحدة الانسحاب من الشرق الأوسط، تخرج فزاعة داعش من جديد، وهذا ما يؤكد أن تنظيم داعش هو مجرد ورقة يتم استخدامها من حين إلى آخر لتحقيق مكاسب سياسة عسكرية ضد تركيا ودول المنطقة، وفي تقديري هذه الورقة قد احترقت، ولم تعد تؤتي ثمارها، فمسرحية داعش أصبحت مكشوفة للجميع واستخدام هذه الورقة بعد أن احترقت هو دليل إفلاس واضح لهذه القوى.
وإذا أردنا أن نتكلم عن آثار هذه العمليات على المستوى الاقتصادي، فنستطيع أن نقول إنَّه ليس هناك اقتصاد بدون أمان، ولذلك يتم محاولة ضرب الأمان والاقتصاد والسياحة التركية بعمليات إرهابية، كالتفجير الذي حصل في شارع الاستقلال في منطقة تقسيم في إسطنبول السنة الماضية الذي تبناه أحد أذرع حزب العمال الكردستاني، من جانب آخر مكافحة الإرهاب مكلفة جدا، وتستنزف الكثير من ميزانية الدولة، ولكن للأسف لا يوجد خيار لدى تركيا غير تطوير صناعاتها الدفاعية وأجهزتها الأمنية، لأنها توجد بمنطقة جغرافية ساخنة، فلقد ذكر وزير الداخلية السابق سليمان صويلو في إحدى المناسبات تكلفة مكافحة الإرهاب في تركيا خلال 1984-2019 التي قدرت بنحو ثلاثة ترليونات وسبعمئة واثنين وعشرين مليون ليرة تركية!، فلو لم يكن هناك إرهاب لأنفقت تركيا كل هذه الأموال على رخاء الشعب التركي.
المشكلة الحقيقية تكمن بأن بعض القوى الغربية تتعامل مع تركيا، كتركيا القديمة، ولا يستطيعون فهم المتغيرات الكبيرة التي طرأت على تركيا وعلى المنطقة، وأنه يجب أن يتعاملوا مع تركيا بناءً على المعطيات الحالية، فزمن محاولات التهديد والوعيد وإثارة الفتن والرعب والخوف قد ولى منذ زمن بعيد، وحاليا توجد قوة صاعدة اسمها تركيا، تركيا ذات الموقع الجيوسياسي المهم، والموجودة في العديد من الملفات الإقليمية والدولية والتعاون معها سيكون أفضل من مجابهتها، وهذا ما شهدناه خلال الحرب الروسية الأوكرانية حيث استطاعت تركيا تمديد اتفاقية الحبوب أكثر من مرة، ناهيك عن الدور التركي في سوريا وليبيا وأذربيجان وإفريقيا، كل هذه المعطيات يجب أن يعاد بها النظر من قبل بعض القوى الغربية والتعامل مع تركيا بواقعية وعقلانية.
المصدر: تلفزيون سوريا