إياد الدليمي
تجتهد الأطراف السياسية في العراق، أو هكذا يبدو، من أجل وضع نهاية للوجود العسكري الأميركي في البلد، في أعقاب هجمات عديدة شنتها الولايات المتحدة على مواقع ومقارّ تابعة لما يعرف بالحشد الشعبي العراقي، والتي أدّت إلى مقتل عدد من قادته، ردّا على هجمات مماثلة قامت بها فصائل مسلحة منضوية تحت راية الحشد الشعبي، بسبب ما تصفه بالدعم الأميركي لإسرائيل في عدوانها على غزّة، علما أن غالبية العمليات التي تقوم بها تلك الفصائل تنسبها إلى جبهة وهمية أطلقت عليها اسم "المقاومة الإسلامية العراقية"، والجميع يعرف أنها ليست سوى مجموعة من الفصائل المسلحة التي تنتمي للحشد الشعبي، ولبعضها تمثيل سياسي في الحكومة الحالية.
للولايات المتحدة في العراق اليوم 2500 جندي بينهم مستشارون، ولديها عدّة مواقع وقواعد في عموم البلاد، ناهيك عن وجود دبلوماسي كبير يتمثل في السفارة في بغداد والقنصلية في أربيل والأخرى في البصرة، تُضاف إلى هذا كله وذاك علاقاتٌ تجاريةٌ واقتصاديةٌ وتعاملاتٌ مالية، تذهب أموال النفط العراقي المُباع غالبا إلى الفيدرالي الأميركي الذي يقوم بالتحويل إلى بغداد وفقا لآلية متّفق عليها.
لقد استعانت بغداد بالقوات الأميركية عام 2014، أي بعد نحو ثلاثة أعوام من انسحاب القوات الأميركية من العراق عام 2011، إثر اجتياح عناصر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) مدناً عراقية عديدة وأعلنوا دولتهم (الخلافة) من على منبر الجامع النوري في الموصل في يونيو/ حزيران 2014 ، حتى اقترب مسلحو التنظيم من بغداد؛ يومَها لم تجد الحكومة العراقية من بد سوى دعوة القوات الأميركية إلى محاربة التنظيم ومنع سقوط بغداد بيد المسلحين، فما كان من واشنطن إلا أن شكّلت تحالفا دوليا بقيادتها لمحاربة التنظيم؛ يومَها كانت الطائرات الأميركية في السماء تحمي المستشارين الإيرانيين في الأرض، وفي صدارتهم قاسم سليماني الذي عادت واشنطن لتغتاله عام 2020.
منذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزّة واستهداف الفصائل العراقية المسلحة قواعد أميركية في العراق وسورية، ثم الرد الأميركي باستهداف مواقع تابعة لتلك الفصائل، وحكومة محمد شيّاع السوداني في حرج شديد، فهي تدرك ما معنى هذه المواجهة إن اتسعت، وهي تعرف جيّدا أن مسك العصا من المنتصف في مثل هذه المواقف لن يستمرّ طويلا، وهي تعلم أيضا أن أي خروجٍ أميركي من دون اتفاق بين بغداد وواشنطن سيؤدّي إلى كوارث على مختلف المستويات والقطاعات.
إزاء هذه الإشكالية في العلاقة بين بغداد وواشنطن، تقف طهران في خلفية المشهد، متربّصة وقابضة على جمر الوقت، وهي تعد الأيام والساعات من أجل هذه الساعة التي يبدو أن عقاربها تشير إلى توقيت طهران لا واشنطن، فحصاد أي انسحاب أميركي من العراق سيوضع في سلة إيران التي أجادت، على ما يبدو، في عملية صنع جمهور الموالين وتشكيل جيوش من الأذرع المسلحة. ولكن لا يبدو الأمر بهذه السهولة، فالعراق لن يكون أفغانستان بالنسبة لأميركا، فلا انسحاب على الطريقة الأفغانية من العراق، صحيحٌ أن هناك اليوم توجّهاً حكومياً مدعوماً برغبة تبدو في ظاهرها سياسية لسحب القوات الأميركية من العراق، لكن باطن الأمور يؤكّد أن لدى الولايات المتحدة اليوم استراتيجية طويلة المدى في العراق، فمثلما نجحت طهران في صنع الموالين لها داخل هيكل الحكومة والدولة، نجحت واشنطن على ما يبدو في الإمساك بمفاصل الاقتصاد العراقي وعصبه، فضلاً عن تأثيرٍ ممتدٍّ وصل إلى حد تفاهماتٍ عقدتها واشنطن مع فصائل عراقية كانت توصف بأنها موالية لإيران، لكن مواقفها أخيراً أكّدت أنه ليست كل المحطّات تؤدّي إلى طهران.
يتحدث ديفيد بولوك، زميل برنامج برنشتاين في معهد واشنطن، عن طبيعة المصلحة الأميركية في البقاء في العراق، فيشير إلى أن واشنطن تحرص على الإبقاء على علاقات ودّية مع العراق، كما أنها تعمل على التصدّي للنفوذ الإيراني ومنع استغلال إيران النفط العراقي، فضلا عن أن هذا الانسحاب الأميركي قد يمنح فرصة لإيران لزيادة تغلغلها في العراق، وما يشكله ذلك من تهديد لإسرائيل، وحتى دول مجلس التعاون الخليجي.
تستشعر إيران ومن خلفها مليشياتها الموزّعة في المنطقة، والعراق على وجه الخصوص، الخطر الأميركي، خصوصاً في ظل الحرب الإسرائيلية على غزّة، وما تبعتها من تداعيات إقليمية وصلت إلى حد تبشير رئيس وزراء الكيان الإسرائيلي، نتنياهو، بشرق أوسط جديد وتغييراتٍ ستطاول عديداً من دوله، مع استعدادات متواصلة لفتح إسرائيل جبهتها الشمالية مع لبنان، في وقتٍ تستعد فيه واشنطن أيضا لإرسال مزيد من التعزيزات العسكرية إلى المنطقة، ومن بينها العراق. بالتالي، من مصلحة إيران ومليشياتها في العراق التفاهم على الانسحاب، لا أن يتم بطريقةٍ تفتح باباً لفوضى قد لا تريدها إيران حاليا.
رغم أن بغداد تتحدّث عن انطلاق حوار ثنائي مع واشنطن لوضع ترتيبات مرحلة الانسحاب الأميركي من العراق، إلا أن البيت الأبيض أعلنها صريحة، لا انسحاب من العراق، فأميركا تدرك أن خطر "داعش" ما زال ماثلاً، وأنه هذه المرة قد لا يهدّد العراق وسورية فحسب، بل يمكن أن يمتد إلى مناطق أوسع في إقليمٍ ما زال مشتعلاً أصلاً، بالتالي فإنّ تفاهمات ما تحت الطاولة هي التي ستحدّد مصير العراق، وليس مصير الوجود الأميركي فيه.
المصدر: العربي الجديد