عمر قدور
أعلن العراق يوم الخميس نجاح مفاوضاته مع الحكومة الأميركية لإطلاق لجنة عسكرية عليا بهدف صياغة جدول زمني لوجود التحالف الدولي في البلاد، وكانت مجلة فورين بوليسي الأمريكية قد نقلت يوم الأربعاء عن مصادر مطلعة، في البيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية، أن واشنطن لم تعد مهتمة بالبقاء في سوريا. وأكّدت المجلة أن مناقشات مكثفة تدور حالياً لبحث توقيت وكيفية سحب القوات الأميركية من شمال سوريا، مشيرةً إلى أن الحكومة الأمريكية أعادت النظر في أولوياتها العسكرية في المنطقة بعدما "بلغت التوترات والأعمال العدائية في الشرق الأوسط ذروتها" إثر هجوم حماس في السابع من أكتوبر.
يُذكر أن لواشنطن 900 عسكري في سوريا، وقد تعرّضت القواعد الأمريكية في سوريا لما يُقارب 100 هجوم منذ السابع من أكتوبر من قبل ميليشيات عراقية تابعة لطهران، والميليشيات ذاتها استهدفت الوجود الأمريكي في العراق بحوالي 40 هجوماً فقط خلال المدة نفسها. وحسبما هو معلن لم تتعرض القوات الأمريكية في البلدين لخسائر جراء عمليات الهجوم الأخيرة، بل هي التي أوقعت بالمهاجمين خسائر أشدّ من الخسائر المادية البسيطة التي تسببوا بها. بصريح العبارة: ليس هناك مبررات ميدانية لقرار الانسحاب الأمريكي من البلدين، والحديث عن إعادة النظر في أولويات واشنطن العسكرية لا يعدو كونه تغطية على الهدية التي تقدّمها لإيران.
للتذكير أيضاً، دأبت التصريحات الإيرانية التي أعقبت هجوم حماس على التصويب على واشنطن، باعتبارها أساس المشكلة، وهو ما عمد إليه نصرالله في خطاباته الأولى من أجل احتساب استهداف القواعد الأمريكية في سوريا والعراق ضمن مؤازرة حماس، وتحت شعار "وحدة الساحات". وكان مفهوماً منذ ذلك الوقت، لمن يودّ الفهم، أن صرف الانتباه في اتجاه أمريكا يخدم قرار طهران عدم مواجهة إسرائيل إلا بما يحفظ ماء وجهها كقائدة لمحور الممانعة الذي كان يتوعد بالقضاء على إسرائيل. لكن كان للتصويب على مسؤولية واشنطن عن العدوان الإسرائيلي واستهداف الوجود الأمريكي في سوريا والعراق وظيفة واضحة جداً أيضاً، وهي الإشارة إلى المكان الذي تريد فيه طهران قبض ثمن "وحدة الساحات" لقاء عدم مؤازرة حماس جدياً في الجبهة المؤثّرة حقاً.
السؤال الذي يجدر طرحه هو عن مدى تأثير هجمات الميليشيات الإيرانية على قواعد أمريكية في سوريا والعراق لجهة دعم الفلسطينيين في غزة، والسؤال الآخر الجدير بالطرح أيضاً هو عن مدى المساندة الحقيقية لغزة بمستوى العنف الذي يصرّ الحزب على أن يكون منضبطاً في الجنوب، ويعلن أن التصعيد متصل فقط بالحرب على غزة، وهدفه إشغال جزء من الاهتمام الإسرائيلي بحيث لا ينصرف كلياً لسحق الفلسطينيين. فوضْعُ هذه الذريعة أمام حرب الإبادة في غزة يدفع في أقل الأحوال إلى السؤال عمّا لم تفعله إسرائيل حتى الآن كي تستثير حمية أولئك المتشدّقين بمؤازرة غزة؟
منذ الأيام الأولى التي أعقبت السابع من أكتوبر سرّبت مصادر إيرانية لوماً لقادة حماس لأنهم، حسب تلك المصادر، لم يبلغوا طهران بالهجوم. ذلك التسريب حمل التبرؤ من المسؤولية عن الهجوم، والتبرؤ تالياً من الرد على الانتقام الإسرائيلي. وكان يمكن حقاً أن تُترك حماس وغزة لمصيرهما، ولمفاوضات تجريها أطراف عربية ذات صلة بحماس وغزة بهدف إيجاد التسوية الأفضل للفلسطينيين في غزة، حتى إن لم تكن الأفضل لحماس. إلا أن الانتهازية الإيرانية وجدت فيما حدث فرصة سانحة للتكسب على حساب الفلسطينيين وغزة، وعلى حساب حماس أيضاً.
الخلاصة التي تُستشف حتى الآن من وحدة الساحات هي تصلّب قادة تل أبيب في الشأن الفلسطيني، وتصلّب أمريكي فيما يخص إيقاف الحرب على غزة وتحقيق الأهداف الإسرائيلية فيها، مقابل مرونة أمريكية تجلّت في الصبر على الحوثيين قبل الشروع في الرد، ثم بإظهار نية الانسحاب من سوريا والعراق وتركهما للنفوذ الإيراني المتغلغل فيهما أصلاً. ولا تحتاج إلى ألمعية ملاحظةُ أن طهران تقبض ثمناً هو بمثابة منحها شهادة حسن سلوك أمريكية على مجمل الأداء الإيراني في الحرب الأخيرة، والجزء الباهظ من الثمن دفعه فلسطينيون أحسنوا الظن بالحليف الإيراني.
كنا في وقت مبكر، آخر شهر أكتوبر، قد أشرنا هنا إلى هذا السيناريو بمقال تحت عنوان: هل يُقبض ثمن غزة في سوريا؟ وكنا أشرنا فيه إلى المطامع أو المطالب الإيرانية أكثر من الاستعداد الأمريكي لتلبيتها، لكنّ الأخبار الواردة من العراق، وفي تقرير فورين بوليسي، تفيد بأن الاستجابة الأمريكية وصلت مرحلة متقدّمة، خاصة إذا أضفنا ما أشيع مؤخراً نقلاً عن موقع مونيتور الأمريكي وفيه أن وزارة الدفاع الأمريكية اقترحت على قسد شراكةً مع الأسد ضد داعش كجزء من سياسة واشنطن الجديدة في سوريا، وهو ما طرحته الوزارة أيضاً في اجتماع لمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض.
صحيح أن شبكة CNN نقلت عن مسؤول لم يُفصح عن هويته في الإدارة الأمريكية أن الانسحاب من سوريا ليس قيد الدراسة، إلا أن استناد فورين بوليسي إلى أربعة مصادر داخل الإدارة يجعل تقريرها يحظى بصدقية أعلى، خاصة مع ربطه بالإجراءات الممهِّدة للانسحاب الأمريكي من العراق. وما قد يعزز سهولة قرار الانسحاب من سوريا أن وجود القوات الأمريكية هو تحت يافطة الحرب على داعش، وليس هناك مسؤوليات مترتبة عليه تجاه الشأن السوري، أو حتى تجاه الحليف السوري قسد. وفوق ذلك لن يُستغل هذا الانسحاب ضد بايدن في السنة الانتخابية الجارية، لأن منافسه الأقوى بين الجمهوريين "ترامب" كان قد اتخذ قرار الانسحاب عام 2019 ثم تراجع عنه تحت ضغط جنرالات البنتاغون.
في الأصل لم تكن هناك أوهام شائعة تربط الوجود الأمريكي في سوريا بالتغيير الذي يطمح إليه السوريون، وكانت الخشية موجودة دائماً من مقايضة مع موسكو المشتبكة مع الغرب في العديد من الملفات، أو مع طهران التي أعطى الرئيس الديموقراطي السابق أوباما أولوية للاتفاق النووي معها مقابل إطلاق ميليشياتها في سوريا من ضمن العديد من المكاسب الإقليمية. رغم ذلك كان يمكن توقّع إيجابية ما لتفاهم أمريكي-روسي أو أمريكي-إيراني يأتي ضمن حسابات تلحظ ضرورة إحداث تغيير سوري خدمةً للاستقرار ليس إلا، وهذا بالتأكيد ليس حال صفقة هاجسها الأهم التوفيق بين المطامع الإسرائيلية ونظيرتها الإيرانية في المنطقة. في المحصلة، تكسب إيران في الحرب على غزة، ويخسر السوريون في حرب لم يخوضوها.
المصدر: المدن