رائد المصري
تنهار الدول العربية تِباعاً، وتفقِد الواحدة تلو الأخرى قدرتها التأثيرية في الداخل وفي المحيط الإقليمي، وهذا كلّه خاضع لمنطق التبدُّل في قوة علاقات الإنتاج العالمية، التي يُعاد تشكيلها وفق النمط الرأسمالي الربحي وحركة التجارة الدولية، التي بدأت تهتزّ بفعل ضربات الحوثيين في خليج عدن وباب المندب والبحر الأحمر، باعتبار أنه نُصرة لشعب فسطين وغزة، ممَّا أفْقد أكثر من سبعة بلدان عربية، أُسُس تشكُّلها وفاعليتها على المسرح الدولي، وانتزاع الدور من هذه الدول تمهيداً لإزالتها عن خريطة الفعل والتأثير، خاصة بما يتعلق بقضية فلسطين وحماية شعبها في إقامة دولة مستقلة كاملة السيادة، وهذا التطور السَّلبي والإنحداري في مسار بلدان عربية كسوريا والعراق واليمن ولبنان ومصر والسودان، باستثناء بعض دول الخليج، التي لها خاصية مختلفة في حركة الإنتاج الطاقوية لضمان سلاسل التوريد، والاكتفاء بدورها كمتفرِّج أو شاهد على كل ما يحصل، بعد أن تعَسْكر البحر الأحمر، وبات في ظلِّ الحماية الأميركية والغربية، في حين الشلل والعجز هو الحاكم لدى دول كبرى ووازنة عربية وخليجية.
فسوريا بعد ترهُّل نظامها السياسي، صارت مستباحة في سيادتها بفعل وبفضل النظام الحاكم، شعبها يتآكله الجوع والفقر والتهجير والقتل والدمار، وإسرائيل تعبث ضرباً وتقتيلاً وقصفاً للمدن والمنشآت والمراكز العسكرية التابعة للجيش والميليشيات، في حين قوات "قسد" شمال شرق البلاد استمْرَأَت طعْم الحكم وتعزيز الفئوية، وتريد تقديم تجربة إدارية وسياسية في الحكم والاستقلال الذاتي وتبدو فاشلة، لأنها تُعيد التسلُّط القبلي والعشائري إلى ما قبل تكوين الدولة المدنية. ومعها تستفيق المدن السورية على قصف إيراني بصواريخ بالستية لمواقع تقول إنها عسكرية وميليشيات في إدلب، تعتبرها مسؤولة عن تفجيرات "كرمان" في ذكرى اغتيال قاسم سليماني، من دون أن تقدِّم الدليل القاطع على أنَّ ممارسات الميليشيات الإيرانية على الأرض السورية والعَبث في سيادة هذه الدولة، هو الذي أفقدها القوة ومتَّن من حضور الأحزاب الدينية وميليشياتها البديلة، كردِّ فعل على الحضور العسكري المتقدم لقوى الحرس الثوري الإيراني.
لبنان الذي انخرط مع حدوده الجنوبية في الصراع الدائر في غزة بعد يوم واحد من انطلاق عملية طوفان الأقصى، تحت عنوان مساندة المقاومة في غزة، يستجمع قواه ومجتمعه ومؤسساته التي فقدت أي أمل في الإصلاح، وفي إعادة حركة الإنتاج لهذا البلد الذي تهجَّر نصف أهله، ويعيش النصف الآخر على فُتات الخبز من حاويات القمامة، في حين تستبيح الأحزاب والميليشيات المسلحة كل مؤسسات البلد، وتسطو على قراراته السيادية وبكل ما يختص بمستقبل أبناء شعبه.
والحوثيون في اليمن، بعد أن أعلنوا انضمامهم _وهم فيه أصلا_ إلى محور الممانعة في قتال إسرائيل ونُصرة لشعب غزة، الذي تُنكِّل فيه الأدوات الإجرامية الصهيونية، وترتكب المجازر والقتل والتهجير، ألْحقوا أنفسهم بما يجري من حرب نصرة لفلسطين، وذلك عبر مسيّرات وصواريخ تُطلق على سفن تجارية، تعبر البحر الأحمر وتتجه إلى إسرائيل، تحت عنوان وقف العدوان على غزة. بناءً عليه، فإن كل هذه المناوشات على الحدود الجنوبية مع إسرائيل، ومعها الهجمات الحوثية التي تضرَّرت فيها أكثر من 50 دولة، لم تقدم أية إضافة ميدانية للعناوين المرفوعة، ولكنها قلبت خريطة الصراع، لتؤكد كل يوم على الحضور الإيراني في المشهد الإقليمي، بالرغم من تنصُّل طهران من أي دور لها في طوفان الأقصى، أو من أية وصاية لها على فصائل الممانعة وخياراتها العسكرية.
طهران الحاضرة في كل المساحات والميادين، اليوم تدخلت مباشرة بقوة الحرس الثوري حيث لم تَعُدْ تنفعها أذرعها في الإقليم لحماية منجزاتها الداخلية ونظام الحكم الديني، فبدأت تتلقَّى الضربات ومعها الاستهدافات الأمنية داخل أراضيها كما حصل في تفجيرات "كرمان"، لتدخل فعلياً في النزاع الدائر في الإقليم، وهي أيضاً لا زالت تقاتل بسواعد ودماء الشعب العربي، من البحر الأحمر حتى البحر المتوسط، مروراً بسوريا والعراق ولبنان، فهي المحدِّدة للأهداف الإستراتيجية، كان أولها إخضاع الحكومات والمؤسسات الدستورية والأمنية في الدولة العربية لقوة الأمر الواقع، ولإرادة الأحزاب الميليشياوية، وتحويلها إلى قوى محلية رديفة للجيش والدولة، باستثناء غزة التي يقاتل أهلها بإمكاناتهم المتواضعة، عدواً محتلاً مجرماً لاستعادة حقهم في وطن اغتصبته الإرادات الاستعمارية ومعها إجماع الإرادات الدولية، لصالح مشروع صهيوني يؤمِّن مصالحها، أما باقي الإقليم، فتُهدَر وتستباح ساحاته ومؤسساته، وتسقُط كل اعتبارات الوحدة الوطنية، ويُسحق القرار الوطني الجامع، ويُؤخذ الشعب إلى خيارات لها عناوينها الجذابة، ومخاطر كبيرة على الوطن.
فهذا التوتّر المستجد في الإقليم وقصف أربيل وكردستان العراق ومواقع في باكستان، وفي شمال سوريا والبحر الأحمر، والقصف الأميركي البريطاني لقواعد الحوثي في اليمن، وميدان التوترات والاغتيالات في لبنان، هي مؤشرات تحمِل كثيرا من الدلالات على خلافات تتعلَّق بالعديد من المِلفات الإقليمية، من دون أن يقف هذا الخلاف حول آلية التعامل مع مستقبل القضية الفلسطينية في اليوم التالي للحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، لكنه حتماً لن ينتهي عند التفجير في مدينة كرمان الإيرانية، الذي أدَّى إلى سقوط أكثر من 100 قتيل. فكلُّ هذه المؤشرات كافية لأن تضرب عمْق الدولة العربية وأسُسها ودورها في الإقليم، الذي بات الغرب يتحيَّز ويتحفَّظ على أدوار إقليمية تلعبها بعض البلدان العربية، التي شكَّلت حالة بسماركية من قوة وتماسُك في الخطاب، واحتياطيات اقتصادية وإنتاجية تؤهِّلها للريادة، حتى لو كانت هذه الدول متحالفة إستراتيجياً مع واشنطن كالسعودية والإمارات وقطر، حيث لا زالت السياسة الأميركية الكلاسيكية، تعتمد نفس المنهج بالإفراط في القوة وتحويلها إلى نفوذ، تبقى قادرة من خلالها على حماية إسرائيل وتعزيز مصالحها واستدامتها.
فالمعركة الفعلية كانت ولا تزال، هي تلك التي تدور على الأرض الفلسطينية، والتي تأتي نتائجها السلبية في الحصاد بعد إخفاقات الدولة العربية، وخاصة دول الطوق في بناء منظومة مُحْكمة التطور والتنمية والتصنيع، ومكتملة العناصر الديمقراطية وتداول السلطة، في حين يسأل المتابع ويحق له السؤال عن جدوى المعارك الأخرى، التي بدأتها طهران في إعادة تنشيط حضورها، ولا زالت مستمرة فيها من اليمن إلى سوريا ولبنان والعراق، فهذا الصراع مضبوط حتى الآن بفعل التحذير الأميركي لطهران وضبطها، وفي ظل سَعْي واشنطن إلى منع تحوُّل حرب غزة إلى انفجار إقليمي، لأنَّ هذا التوسُّع في الحرب الإقليمية، لا يتم إلاَّ إذا استمرت إسرائيل في انتهاج سياسة التهجير بحق الشعب الفلسطيني، ورفضها لأي حل أو تسوية جدية، وكذلك إذا استمرت إيران باستغلال نفوذها وانتشار ميليشياتها في البلدان العربية لتصعيد التوتر إلى حدود الانفجار العام.
وفي هذه الحال لم تكن سوى جبهة لبنان الجنوبية الأكثر ضبطاً طيلة فترة الانخراط العسكري فيها، بينما الفصائل المسلحة المقاومة في العراق اخترقت السقوف العالية باستهدافاتها القوات الأميركية في سوريا، لكن اليمن وقوى الحوثي لجأت إلى خطوات تصعيدية، تمثَّلت باستهداف السفن وتعطيل الملاحة التجارية الدولية في البحر الأحمر.
ولذلك رصدت واشنطن حلقات التصعيد في سلوك الحوثيين، وراقبت تمسُّك "حزب الله" اللبناني بعدم الذهاب إلى حرب شاملة، فأبْعدت لبنان عن مَدَيات الاستهداف الإسرائيلي، لكن سلوكها قد اختلف بعد تصاعد حركة الحوثيين في منطقة باب المندب والبحر الأحمر، لأنَّ عملياتهم بدأت تضرُّ بالشحن البحري وحركة التجارة العالمية (مفتاح واشنطن المهيمِن)، والنتيجة كانت تحوُّل الشحن البحري الدولي، وارتفاع كلفة النقل والتأمين والأسعار وانعكاسها جميعاً على الاقتصاد العالمي.
فهذا الأنموذج من الصراع في البحر الأحمر وخليج عدن، شهده العالم العربي من قبل، وفشل فشلاً ذريعا بكلفة عالية، فلم يتعلَّم الحوثيون من التجربة التي يحاول الإيرانيون تكرارها بأشكال أخرى، ولأهداف مماثلة في البحر الأحمر، فهم يعتقدون أن إقفال البحر الأحمر وهو بحيرة عربية ودولية بامتياز يمكن تحقيقه، لكنه سهَّل وسرَّع عملية السيطرة الغربية على المضائق وحركة الملاحة الدولية في المنطقة العربية وبسرعة كبيرة، من دون أن تحرِّك روسيا أو الصين ساكناً.
حكماً لن تتساهل أميركا، وأتى تحذيرها موجَّهاً إلى الراعي الإيراني ومعه الحوثيون، بعد رفع الشعارات عن طرد الأميركيين من غرب آسيا، مرفَقة بإطلاق 20 صاروخاً ومسيرة على سفينة أميركية، حيث دان مجلس الأمن محاولات شلّ حركة السفن في البحر الأحمر، مع امتناع روسيا والصين عن التصويت، وبات الغطاء الدولي متوفراً لحمْلة القصف البريطانية الأميركية.
إنها مأساة الشعوب العربية ونُظُمها الحاكمة المترهِّلة، التي شكَّلت على الدوام حالة كولونيالية للغرب والاستعمار، في تقديم خدمات مجانية لقاء منافع السلطة، وحتى هذا لم يشفع لها، فبدأت تتقوَّض معالم الدولة الوطنية وسيادتها، بعد أن تساهلت و/أو سمحت بتفريخ الميليشيات المسلحة واتخاذها مساحات جغرافية كبيرة متوسِّعة على حساب الشرعية، فكلُّ طرف من الأطراف له مصالحه الاستراتيجية الخاصة، وآليات توظيف الحرب على غزة ومستقبلها، انطلاقاً من التنافس والصراع على النفوذ في المنطقة، والسعي إلى تصدُّر المشهد، والإمساك بأوراق الحل أو مفاتيحه عند الجلوس إلى طاولة الحوار والتفاوض، وإلى أن يحين الوقت في إنضاج الحلول، تكون الدولة العربية البسماركية قد فقَدَت مبرِّر حضورها ووجودها، وباتت على هامش الإقليم وفي أسفل سلّم الأولويات في صياغة النظام العالمي والدولي الجديد.
المصدر: تلفزيون سوريا