عبد الجبار عكيدي
لعل الانقسام الذي أحدثته الثورة السورية إبّان انطلاقتها في مارس/ آذار 2011 في صفوف المواطنين الفلسطينيين المقيمين في سورية يكاد يكون شبيهاً بالانقسام ذاته داخل المجتمع السوري، إذ إن الذاكرة الفلسطينية لا تزال زاخرةً بإرث مأساوي عصيّ على النسيان، ولهذا وجد قسم كبير من الفلسطينيين أن هذه الثورة على نظام الأسد هي بوجه حاكم طاغية قتل منهم عشرات الآلاف، وما إن دخلت الثورة السورية في طوْرها المسلّح، حتى بدأ الفرز بين مؤيدي الثورة ومؤيدي الأسد أكثر وضوحاً، فمنذ الأيام الأولى لانطلاق الثورة، انخرط أبناء المخيّمات الفلسطينية في سورية بكل أشكال الحراك، وفي أسبوعها الأول 21/3/2011، ارتقى أول شهيد فلسطيني في مخيّم درعا، وسام الغول، في إحدى التظاهرات، وتبعه آلاف الشهداء الفلسطينيين الذين شاركوا في كل جوانب الثورة، المدنية والعسكرية.
كانت المشاركة الفلسطينية في الجانب العسكري مهملة في أدبيات الثورة السورية، ولم تجر إضاءة عليها، رغم أنها كانت وازنة ومهمة، وأنه كانت للفلسطينيين في سورية بصمات وأدوار مهمة وفعّالة، وكانت لهذه المشاركة مستويات متعدّدة، فبعض أبناء المخيّمات أسّسوا تشكيلات عسكرية ذات عناوين فلسطينية عملت إلى جانب فصائل الجيش الحر في أماكن مختلفة، كما حدث في مخيّمات اليرموك ودرعا والرمل الجنوبي (الفلسطيني في اللاذقية) ومخيّم حمص وقرى جنوب دمشق وبلداته. وهناك آلاف من أبناء المخيّمات ممن انضمّوا مباشرة ضمن تشكيلات الجيش الحر أفرادا، كما حصل في مخيمي النيرب وحندارات في حلب... ودفاعا عن الحقيقة التي غابت عن سوريين كثيرين، وربما هناك من أراد تغييبها عن قصد، تسلط هذه المقالة الضوء بالأرقام والوقائع والأدلة على مستوى المشاركة الفلسطينية في الثورة ضد النظام.
ولعل التوجّه العام لدى قادة فصائل الجيش الحر كان بدمج المجموعات الفلسطينية ضمن تشكيلاتهم، من دون أن يكون لها عنوان فلسطيني خاص ومستقل يعملون من خلاله، قد أدّى الى حجب معلوماتٍ كثيرة عن طبيعة (ونوعية) مشاركة الفلسطينيين في البعد العسكري للثورة السورية؟
منذ بداية الثورة، حصلت حالات تململ في أوساط ضباط جيش التحرير الفلسطيني وعناصره، رغم المراقبة الأمنية اللصيقة على أي صوتٍ يعرب عن انحيازه أو تعاطفه مع الثورة السورية، فارتكبت مخابرات النظام في الأشهر الأولى للثورة تصفية ضبّاط جيش التحرير الفلسطيني الذين أعربوا، في جلسات خاصة، عن امتعاضهم من سلوك النظام بقتل السوريين. منهم رئيس أركان قوات حطين العميد الركن رضا الحضرا، وقائد كتيبة أجنادين العقيد الركن عبد الناصر مقاري، ورئيس قسم المدفعية في قوات حطين العقيد الركن أحمد الحسن، والعميد الركن الطبيب أنور السقا، فكان لتصفيتهم صدى كبير وأدت إلى حالة غضب في أوساط الفلسطينيين السوريين.
بعد هذه التصفيات، حصلت انشقاقات كثيرة على مستوى ضباط الفصائل الفلسطينية وعناصرها في دمشق ودرعا، كان أكبرها في منطقة عدرا في ريف دمشق، حين انشقّ قائد الكتيبة 421 صاعقة قوات القادسية، العقيد الركن خالد الحسن (أبو عدي) مع مجموعة من ضباط وصف ضباط وجنود الكتيبة، والذي قاتل الى جانب فصائل الجيش السوري الحر في الغوطة وجنوب دمشق حتى استشهد في مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في مخيم اليرموك عام 2015.
كان الفلسطينيون في مخيّمي درعا والرمل الجنوبي في اللاذقية سباقين بالانخراط في العمل العسكري بجانب فصائل الثورة، مستفيدين من تجاربهم وخبراتهم القتالية التي اكتسبوها سابقاً من العمل الفدائي، فأسهموا بتلك الخبرات في تطوير عمل فصائل الجيش الحر، وجرى توظيفها في الأعمال العسكرية وتدريب فصائل سورية عديدة على الأسلحة والتصنيع وحفر الأنفاق وغيرها، وكان لكوادر حركة حماس في البدايات دور بارز، وخصوصا في التدريب والتصنيع، فكان أول من بدأ بتصنيع العبوات الناسفة الشهيد جهاد دياب أبو زيد، وهو من أبناء مخيم درعا للاجئين الفلسطينيين، ثم تأسس أول تشكيل عسكري من أبناء المخيّم تحت مسمّى (كتيبة الشهيد طاهر الصياصنة) بقيادة الشهيد ربيع حبيب، بداية عام 2012، ثم تشكّلت كتيبة شهداء الأقصى، بقيادة الشهيدين محمد فريج وعرفات عوض وهما من أبناء المخيم، بالإضافة لكتيبة أكناف بيت المقدس التي عملت في الريف الغربي لدرعا وريف دمشق، وكان قادتها وعناصرها من حركة حماس كما هو معروف لدى كثيرين، بالإضافة إلى كتيبة أبناء الأقصى، بقيادة الفلسطيني الأردني الشهيد عمّار أبو سرية، التي عملت ضمن صفوف لواء توحيد الجنوب التابع للجيش الحر، والكتيبة 421 صاعقة بقيادة العقيد الركن قحطان طباشة الذي انشقّ عن جيش التحرير الفلسطيني مع مجموعته واستشهد وهو يقاتل إلى جانب فصائل الثورة السورية، في معركة زيزون، بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 2012.
وفي مخيم الرمل الجنوبي (اللاذقية)، قامت مجموعة من الفصائل الفلسطينية بتصنيع الصواريخ والعبوات الناسفة والحشوات المتفجّرة والألغام وتدريب الفصائل على صناعتها وتدريبها على السلاح وأساليب القتال، وتشكّلت بعض الفصائل التي تحمل عناوين فلسطينية للدفاع عن المخيم، كان من أبرزها كتيبة هندسة المجاهدين، بقيادة النقيب في منظمة التحرير علي الخطيب، المعروف بأبو عبيدة الفلسطيني الذي تعرّض للإصابة في معركة الدفاع عن الحي، وانضمت فيما بعد للواء أحباب الله التابع للجيش الحر في جبل الأكراد.
أما المشاركة العسكرية الكبرى للفلسطينيين فكانت في دمشق وأحيائها الجنوبية، وكان من أبرز الفصائل الفلسطينية التي تأسّست وعملت إلى جانب فصائل الثورة هناك، كتيبة عبد الله عزّام، بقيادة القائد الحمساوي بهاء صقر، والمرافق الشخصي لخالد مشعل، رئيس المكتب السياسي لحركة حماس في حينه، محمد أحمد زغموط، الملقب بأبو أحمد المشير، وكتائب أكناف بيت المقدس التي أسّسها مسؤول الحركة في سورية يحيى الحوراني (أبو صهيب) وقائدها العسكري، القيادي في حركة حماس محمد مأمون الجالودي (أبو جودت) المعتقل في سجون النظام، وكان لهم دور كبير في تدريب عديد من فصائل الثورة، في أغلب المحافظات الثائرة، على السلاح والتكتيك العسكري وتصنيع الصواريخ والعبوات التي أوكلت مهمتها للقيادي في الحركة محمد بلال أبو هلال، ومنها لواء العهدة العمرية في بلدة يلدا، بقيادة الفلسطيني السوري إسماعيل شمّوط أبو هاني، والعقيد في حركة فتح أحمد بدوان أبو محمد، وكذلك كتيبة أحرار جيش التحرير الفلسطيني بقيادة العقيد الشهيد خالد الحسن أبو عدي، والملازم أول الشهيد إياس النعيمي، وأيضاً لواء أحرار فلسطين بقيادة العقيد في حركة فتح الشهيد أبو عمار حميد، والقيادة الحرة لتحرير فلسطين بقيادة محمد أبو زيد، وهو منشقّ عن الجبهة الشعبية – القيادة العامة مع مجموعة زملائه (ما لبث أن عاد إلى دوره التشبيحي).
كانت المشاركة الفلسطينية في الجانب العسكري مهملة في أدبيات الثورة السورية، رغم أنها كانت وازنة ومهمة
في الجانب الآخر، لا يمكن تجاهل استخدم النظام مليشيات فلسطينية تابعة لأجهزة مخابراته، كانت أدواتٍ وظيفية بيد النظام بمواجهة الفلسطينيين والسوريين معاً، من أبرزها فتح الانتفاضة والجبهة الشعبية القيادة العامة، كما أنشأ مليشيات جديدة أكثر ولاءً له، أبرزها "فلسطين حرّة" و"الصاعقة" و"لواء القدس" الذي شكله محمد سعيد عام 2013، من شبيحة مخيمي النيرب وحندارات في حلب، على أثر اختطاف مخابرات النظام مجموعة من جيش التحرير الفلسطيني من أبناء مخيّمي حندارات والنيرب وقتل أفرادها في أثناء مغادرتهم مركز التدريب، في مصياف، لقضاء إجازتهم، وكان عددهم 12، بالإضافة إلى السائق، وهو من أبناء مخيم النيرب، وإلصاق التهمة بالجيش الحر في إدلب، علماً أن تسريباتٍ كانت من بعض قيادات الفصائل الفلسطينية بأنهم موجودون في فرع أمن الدولة في حماه. وبعد أيام، أبلغ النظام ذويهم باستلام جثثهم من المشفى العسكري في إدلب، لإحداث حالةٍ من العداء مع الثورة، وإذكاء روح الفتنة بين المجتمعين الفلسطيني والسوري، وقد نجح في ذلك إلى حد كبير في مخيّم النيرب.
تشكّل إعادة التذكير بالمشاركة الفلسطينية في الثورة السورية أحد الأجوبة عن أحاديث واتهامات بأن الفلسطينيين السوريين لم يشاركوا فيها أو اصطفّوا مع النظام، وهذا غير صحيح وغير دقيق، بل كان لديهم انقسام كحال المجتمع السوري، لكن القسم الأكبر منهم انحاز إلى ثورة الشعب وشارك في الجانب العسكري، ما يؤكّد أن موقف الفلسطينيين مع الثورة السورية يقابله موقفٌ مماثل من السوريين بالوقوف الى جانب إخوانهم الفلسطينيين في معركتهم مع الاحتلال الصهيوني، وما يتعرّضون له من إبادة جماعية في غزّة، وأن هذه المعركة تحمل دلالات مشتركة على أن الفلسطينيين والسوريين يخوضون معركة ضد الاستبداد والاحتلال، فكما كان من الطبيعي أن يتمسّك الفلسطينيون السوريون بحقهم بالعودة إلى فلسطين، كان أيضا من الطبيعي أن يتمسّكوا بحقهم بالحرية باعتبارهم جزءا أصيلا من المجتمع السوري.
المصدر: العربي الجديد