بشير البكر
النفاق الألماني لإسرائيل لا ينافسه أحد. ومن يعتقد أن المانيا تتصرف كصديق للدولة العبرية، ومن منطلق الحرص على أمنها، واهم. وكل من لا يصدق هذه الفرضية، عليه اجراء مقارنة بسيطة، بين ردود أفعال الحكومة الألمانية، حيال هجمات السابع من أكتوبر، وبين حتى أقرب أصدقاء اسرائيل، الولايات المتحدة. هناك فارق شاسع يكبر مع الوقت. ورغم الدعم غير المحدود لإسرائيل من طرف أميركا وبريطانيا ودول أخرى، فإنه لم تصل واحدة منها في المبالغة، حد تغيير بعض القوانين الداخلية، من أجل إظهار مقدار تأييد اسرائيل.
ستبقى مضرباً للمثل صورة رئيس الحكومة الألمانية أولاف شولتس، والوفد الحكومي المرافق له، وهم منبطحون على أرض مطار تل أبيب في الثامن عشر من اكتوبر الماضي، عندما دوت صافرات الإنذار لحظة نزولهم من الطائرة. وبدلا من أن تخلق تلك الصورة انطباعاً بحجم الخطر، شكلت مادة للسخرية والتهكم من المستشار الذي يقود دولة، لا يليق بها أن تضع نفسها في موقف كاريكتيري مضحك، خاصة أن جانب التمثيل فيها واضح، ولكن الاخراج غير متقن، تنقصه المهنية.
سبق المستشار الألماني، وأعضاء حكومته، العالم كله في زيارة اسرائيل. زايد هو ووزراؤه على أقرب أصدقاء تل أبيب. وأخذته المبالغة في التضامن حد الريبة في صدق المشاعر وعمقها، وصدورها عن إحساس فعلي بالواجب، الذي تمليه اللحظة. ومن كثرة ما غمر به اسرائيل من مشاعر جياشة، أثار اسئلة الاستغراب، لا الإعجاب والتقدير. واللافت هنا هو، أن تل أبيب لم تبد حرارة مماثلة، وهي تستقبل الهجوم الألماني عليها. بل تصرفت ببرود، من يفصل بين تسديد الديون، وبين العاطفة الخالصة، المجردة من الغايات.
لم يطل الوقت حتى يتضح، بأن الموقف الألماني الرسمي هو قرار وسياسة دولة، ملزم لكل المؤسسات والمواطنين، بما في ذلك اولئك الذين يعملون في مؤسسات دولية خارجة عن سلطة الدولة الالمانية، مثل رئيسة المفوضية الأوروبية، اورسولا فون ديرلاين، التي جاءت زيارتها وتصريحاتها ومواقفها المؤيدة لإسرائيل، على غير موجة موقف الاتحاد الأوروبي، الذي مثله مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد جوزيب بوريل، من خلال الالتزام بالاعتدال في تصريحاته.
وانسحب موقف الدولة الالمانية على كل من هو مقيم على أراضيها، وهذا ما يفسر الاجراءات العنيفة ضد المظاهرات التضامنية مع غزة، والحملات التي تعرض لها فلسطينيون، من بينهم حملة الجنسية الألمانية، وهو ما لم يحدث في أي مكان آخر في العالم. وحتى الاحتفاء بالطبخ والتطريز الفلسطينيين، بات ممنوعا في المانيا. والمفارقة أن المجموعات اليهودية الداعمة للسلام صارت هي السند للناشطين الفلسطينيين، خصوصا جمعية "الصوت اليهودي لأجل سلام عادل في الشرق الأوسط"، و"الاتحاد اليهودي لمعاداة الفاشية".
في سياق التدهور السريع، جاء الخطاب الذي نشره روبرت هابيك، نائب المستشار الألماني، وعممته الحكومة الألمانية على نطاق واسع، وفيه تهديد واضح بالمحاكمة وبالترحيل، لكل من "يعادي إسرائيل" من المسلمين واليساريين. وعليه صار الرأي العام يتوقع مفاجآت أخرى، منها التي تتعلق بتعديل قانون الحصول على الجنسية الألمانية، ليتضمن الزام الشخص المتقدم بحق إسرائيل في الوجود، واعتبار أن أمن تل أبيب مصلحة عليا لألمانيا. وبات على طالبي الجنسية من الأجانب، أن يؤكدوا كتابياً أنهم يعترفون بحق إسرائيل في الوجود، وأن يدينوا أي جهود موجهة ضدها. كما أنه عند دراسة الطلب، سيجري التأكد من عدم وجود دليل على مواقف معادية للسامية، ورفض التجنيس إذا ما قام الأجنبي بأمور ضد النظام الأساسي، وعدم تسليم شهادة التجنيس إذا ما رفض الإقرار بقبول الشروط، وأن يدون ذلك في ملفه.
هل يكفي النفاق وحده لتفسير الموقف؟ ثمة من رأى أبعد من ذلك، ومن بين هؤلاء الفيلسوفة الأميركية (اليهودية) جوديت بتلر، التي تعرضت إلى انتقادات شديدة في المانيا. ووصفت بأنها "يهودية معادية للصهيونية. أرجعت ذلك في حوار لها مع صحيفة "دي تسايت" إلى أنه "عبر الدعم غير المشروط لإسرائيل، يريد عديد من الألمان إثبات أنهم ليسوا من معادي السامية. ولهذا يهاجمون كل شخص يطالب بالعدالة لفلسطين".
يبحث البعض عن اسباب ومبررات في العقل الباطني الألماني، ولكن الواقع لا يحتمل ذلك، ولا يكفي التكفير عن جريمة المانيا النازية وحده، من أجل تفسير مواقف الحكومة الالمانية. هناك ما يتجاوز كل الحدود إلى نوع من النفاق، الذي لا وصف له. لم توقع المانيا في منتصف كانون الأول البيان الذي يدين عنف المستوطنين في الضفة الغربية. وحدها انفردت بهذا الموقف الغريب من بين كل دول أوروبا. وحده المستشار الألماني، من بين كل قادة العالم، الذي انتقد السلطة الفلسطينية والرئيس الفلسطيني محمود عباس، ووصف صمتهما بـ"المخزي".
هل يعني ذلك تسديد دين قديم لإسرائيل؟ واذا صح ذلك، فهل هذا يعني أن مواقف المانيا منذ الحرب العالمية الثانية لم تبلغ المستوى المطلوب، لجهة تسديد التعويضات المترتبة على المحرقة النازية؟ على العموم ليس هناك مواقف شبيهة، من طرف حكومات المانية سابقة، تجاه محطات سابقة في الصراع العربي الاسرائيلي. ما هو واضح هو أن الحكومة التي يقودها اشتراكي تريد تثبيت مسألة مهمة وهي، أن المانيا تتحمل مسؤولية خاصة تجاه اسرائيل، كأنها خائفة أن ينسى الألمان الجريمة ارتكبها أسلافهم. وهي تدأب على أن تتحمل الأجيال الحالية أيضا، نفس القدر من المسؤولية.
المصدر: المدن