إبراهيم ريحان
مُتشعّبة هي تعقيدات الحرب المُشتعلة نيرانها في غزّة. لكنّ تعقيداتها صارَت مصيريّة وأزمة مستقبلٍ سيّاسيّ لكلّ من الرّئيس الأميركيّ جو بايدن، ورئيس الوزراء الإسرائيليّ بنيامين نتنياهو.
الأوّل يُريدُ "القضاء على حماس" والتّخلّص من نتنياهو في آنٍ معاً. وأن يُحافظَ على الدّعم الأميركيّ التّاريخي المُطلق لإسرائيل. والأهمّ يُريدُ أن يُحافظ على الدّعم التّاريخي للجاليات العربيّة والمُسلمة في أميركا للحزب الدّيمقراطيّ، والتي باتت اليوم في مهبّ الرّيح على أعتاب الانتخابات الرّئاسيّة المُقبلة.
أمّا الثّاني، فيُريدُ أيضاً أن "يتخلّصَ من حماس". كما يسعى أن يبني صورةً للرأي العام الإسرائيلي عنوانها "بنيامين نتانياهو الذي حمى إسرائيل"، وأن يمسَحَ من ذاكرة الإسرائيليين صُور يوم السّابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، يومَ هشّمَت كتائب القسّام صورة "الجيش الذي لا يُقهر".
بايدن وحيرته
لم ينفكّ الرّئيس الأميركيّ منذ السّاعات الأولى لعمليّة "طوفان الأقصى" يُذكّر العالم أنّه "صهيونيّ". وأعادَ على مسامعنا مرّات ومرّات مقولته الشّهيرة التي قالها أواخر ستّينيّات القرن الماضي: "لو لم يكُن هناك إسرائيل، لكان علينا أن نُوجِدَ واحدة".
كما حطّ بايدِن رحاله في مطار تل أبيب في خطوة غير مسبوقة من رئيس أميركيّ يزور الكيان العبريّ في مرحلة الحرب. وسبق زيارته القطع البحريّة الأميركيّة من حاملات الطّائرات وطرّادات الصّواريخ والغوّاصات النّوويّة وطائرات الجسر الجوّيّ المُحملّة بالذّخائر، "الذّكيّة" منها و"الغبيّة".
"صهيّونيّته" دفعته لتبنّي الرّوايات الإسرائيليّة الكاذبة حولَ قطع رؤوس الأطفال من دون التأكّد من مصادر أخبار رئيس أقوى دولة على وجه الأرض. ودفعَ بمسؤولي إدارتهِ من نائبته كاملا هاريس، ووزير خارجيّته أنتوني بلينكن، ووزير دفاعه لويد أوستن، ومُستشار الأمن القوميّ لذلك...
التزام بايدن تجاه إسرائيل، والذي يعود إلى ما قبل حرب تشرين/أكتوبر 1973، دفعَه لحملِ ملفّات خلافاته الكثيرة مع نتنياهو نحو الثّلاجة. لكنّ عمقَ الخلافِ بين الرّجليْن أكبر من أن تحمِلَه أيّ "ثلاجةٍ سيّاسيّة". فذابَ الثّلجُ عنها، وأطلّت برأسها مُجدّداً تحت صوتِ المدافع.
صارَ بايدن في مأزقٍ. وباتَ عالقاً بين وجدانِهِ الصّهيونيّ الهوى، وسعيه الدّائم منذ 2021 لإبعاد نتنياهو والأحزاب اليمينيّة المُتطرّفة عن المشهدِ السّياسيّ الإسرائيليّ. يعلَمُ بايدِن في قرارة نفسه أنّه لا يُريد أن يُراعي مصالحَ نتنياهو السّياسيّة، كما أنّ الأخير يُبادله الشّعورَ نفسه.
نتنياهو يُسابق مُستقبله
لم تنتهِ الحرب بالسّرعة التي كانَ يأملُ بها الرّئيس الأميركيّ. كذلكَ نتنياهو وجدَ نفسه غارقاً في مُستنقعِ غزّة.
تُدمّر دبّاباته أمام عدسات الكاميرات. وجيشه لم يصِل إلى أيّ من قيادات حماس الذين تُلاحقهم إسرائيل. والأهمّ أنّه لم يضرب بُنيتها العسكريّة بعد أكثر من 70 يوماً، بدليل استمرار إطلاق الصّواريخ من القطاع نحوَ مُستوطنات الغلافِ والعُمقِ. وأنّ فرقَ النّخبة لم تستطِع تحرير أيّ أسيرٍ لدى حماس، بل قتلت 3 منهم رمياً بالرّصاص.
يُدركُ رئيس الحكومة الإسرائيليّة أنّ أغلب وزراء حكومته يتربّصون له في اللحظة التي يُوافقُ فيها على إطلاق النّار
فوزير دفاعه يواف غالانت عينه على رئاسة حزب نتنياهو، الليكود، ومن بعدها على رئاسة الوزراء. وبيني غانتس يُراقبُ أرقام استطلاعات الرأيّ التي تحملهُ إلى صدارة السّاسة الإسرائيليين المُرشّحين لوراثة كُرسيّ نتنياهو. كذلك زعيم المُعارضة يائير لابيد لا يتوقّف عن ضربِ صورته ودعوته للاستقالة رغمَ الحرب.
أمّا الثّلاثي المُتطرّف: وزير الأمن الدّاخليّ إيتمار بن غفير، ووزير الماليّة بتسلإيل سموتريش، ووزير التّراث عميحاي إلياهو، فيُدركون أنّ مصيرَ رئيسهم بين أيديهم. ففي حال خالفَ نزعاتهم المُتطرّفة، فيستطيعون تدمير الائتلاف الحكوميّ وإخراجه من السّلطة نحوَ مصيره المحتوم في السّجن.
لهذا اختار نتنياهو الانصياعَ لرغبات ثُلاثي الحركة الصّهيونيّة الدّينيّة. ويسعى أن يُقدّمَ نفسه للرأي العام الإسرائيليّ، المُتعطّشِ للانتقام، أنّه أكثر تطرّفاً ولهذا دأبَ خلال الأيّام الأخيرة على مُهاجمة "حلّ الدّولتيْن" والتصريح بأنّ إسرائيل هي التي ستُقرّر مُستقبل غزّة، لا السّلطة الفلسطينيّة. وأخيراً قال إنّ على من يريد أن يكونَ رئيس وزراء إسرائيل أن لا يرضخ للإملاءات الأميركيّة.
هكذا بدأ نتنياهو حملته الانتخابيّة باكراً. يُحاول أن يُعيدَ جبرَ ما كسرته كتائب القسّام من صورته التي بناها على مدى أكثر من 30 عاماً، حتّى صارَ أكثر شخصيّة تتولّى منصبَ رئيس الوزراء في الدّولة العبريّة.
أمّا في واشنطن، فإنّ بايدن باتَ على درايةٍ أنّ ما يفعله نتنياهو في تل أبيب، قد يرتدّ عليه في صناديق الاقتراع الرّئاسيّ في شهر تشرين الثّاني 2024.
فبدأ هو الآخر حملةً مُضادّة على نتنياهو. وهذا من جملة الأسباب التي دفعَت بايدن للتصريحِ ضدّ حكومة إسرائيل، في مشهدٍ يندرُ حصوله في العلاقة الأميركيّة – الإسرائيليّة.
كذلكَ يُواجه بايدن مُعارضةً مُتزايدة لدى الرأي العام الأميركيّ بشكلٍ عامّ، وفي صفوف حزبه الدّيمقراطيّ بشكلٍ خاصّ. فاستطلاعات الرّأيّ، ومنها استطلاع "رويترز وإيبسوس
" أظهرَت أنّ ثُلثيْ الأميركيين يُعارضون الحرب، وغير راضين عن أداء رئيسهم الدّاعم لإسرائيل.
أمّا على صعيد الحزب الدّيمقراطيّ، فإنّ 70% غير راضين عن أداء الرّئيس. وكذلك بدأت حملة عربيّة تدعو لعدم التصويت لبايدن في الانتخابات الرّئاسيّة وهذا ليسَ تفصيلاً. إذ إنّ النّاخبين العرب والمُسلمين يُؤثّرون بشكلٍ واسع في بعض الولايات المُتأرجحة والتي تحسم الانتخابات، بحسب ما ذكَر الكاتب شادي حميد في صحيفة "واشنطن بوست".
كذلكَ يعتمد الحزب الدّيمقراطيّ على النّاخبين اليساريين، والذين يُعارضون بشدّة الحرب الإسرائيليّة ضدّ غزّة. وهذا بدا واضحاً في كلام المُرشّح الرّئاسيّ السّابق السّيناتور بيرني ساندرز ذي النّزعة اليسارية: "سيكون من غير المسؤول بالنسبة لنا تقديم 10.1 مليار دولار إضافية من المساعدات العسكرية غير المشروطة التي ستسمح لحكومة نتنياهو بمواصلة هجومها الحالي".
وإن كانَت مُعارضة ساندرز لا تُؤثّر داخل مجلس الشّيوخ، لكنّها حتماً مُؤثّرة للغاية في صفوف الحزب الدّيمقراطيّ.
هكذا صارَت حربُ غزّة مادّة نزاعٍ بين بايدن ونتنياهو. كلاهُما يريدُ أن يربَحَ النّاخبين في بلاده، ويتواجهان بخطوط سيرٍ مُتعارضة. تكمن الخشية أن يُقدِمَ نتنياهو، بفائض التّحدّي لبايدن والنّزعة اليمينيّة، على فتحِ جبهات أخرى، وعندها يكون جرّ بايدن معه إلى مُستنقعٍ سيكون أفظعَ من غزّة.
المصدر: تلفزيون سوريا