فارس الذهبي
على مدى تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي، لم يكن حل الدولتين واقعاً ملموساً، بل وحاجة عضوية، أكثر من الفترة الحالية، فعلى رغم الخوف والألم، والدم المسفوك، إلا أن التضامن العالمي للشعوب فيما يخص القضية الفلسطينية، خلق حالة إنسانية أعادت إحياء القضية الفلسطينية التي سكنت أروقة الدبلوماسية الدولية كمعضلة يصعب حلها.
إن شدة العنف الذي مارسته قوات الاحتلال الإسرائيلي تجاه المدنيين في ردها على عملية السابع من أكتوبر في غلاف قطاع غزة كانت كفيلة بفتح أرشيف القضية الفلسطينية ككل متكامل وأعاد طرح سؤال الهوية في الأرض الكنعانية وسرعان ما اشتعلت مواقع التواصل الاجتماعي والقنوات الإخبارية بمناظرات سياسية وإنسانية وأخلاقية مرتبطة بالحق الإنساني البديهي في الوجود، وحقوق كل الشعوب في تقرير مصيرها، وهو أمر مهم جداً في ظل عولمة كبرى، وطغيان الصراع الدولي بين معسكر يطالب بمحاربة الدكتاتورية وسلطات الأمر الواقع التي تحكم جزءاً غير يسير من العالم من الصين وروسيا وحتى دول ما يسمى بـ "حلف المقاومة" وأنظمة الحكم الفردي في إفريقيا وآسيا، في مواجهة سلطة الغرب أو القطب الواحد المتمركزة في العواصم المتحالفة مع واشنطن التي ترغب في تطبيق المنهج الأخلاقي الغربي الأوروبي على بقية العالم، من دون الأخذ بعين الاعتبار خصوصيات الشعوب والأديان والتقاليد، فالدول الرافضة للمنهج الغربي تتذرع برفضها لمبدأ الحرية الفردية ونفي الأديان وحقوق الفرد الجنسانية، وترسم لشعوبها عبر ماكينة إعلامية لا يستهان بها وحشاً اسمه "الحرية الفردية" بينما تصر واشنطن وحلفاؤها على نشر الديمقراطية كمبدأ يتضمن عشرات الأفكار الأخلاقية التي تريد تطبيقها على عالم متغير ومتبدل، يسير بخطى ثابتة نحو العولمة والتشاركية الاقتصادية
لذا فإن الصراع في الشرق الأوسط جسد حرفياً هذا النزاع بين الكتلتين، بشكل أكبر وأشمل من الصراع في أوكرانيا. لخصوصيته ولنصاعة قضيته المتعلقة بالمواجهة بين الغرب والشرق، في تناس كامل لحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره. وضرورة عدم مجاراة المظلومية اليهودية في الحرب الكونية الثانية في مقابل المذابح المتعلقة بالمظلومية الفلسطينية.
وعلى الرغم من هذا فإن معظم المتصارعين في العالم يؤيد حل الدولتين: الصين والهند وروسيا والاتحاد الأوروبي وأميركا والأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي، والمؤتمر الإسلامي وجامعة الدول العربية ومجلس التعاون الخليجي وتجمع أسيان والدول السبع الكبرى، جميعها تصر وتؤيد حل الدولتين. ولكن من يرفض هذا الحل السياسي الشامل للقضية الفلسطينية الذي سيفتح باب الحلول لجميع قضايا الشرق الأوسط؟
من يقف خلف الرفض المطلق لحل الدولتين هما كيانان سياسيان: الأول هو اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي نجح عبر عشرين عاماً من الانتخابات البرلمانية في تهميش حزب العمل واليسار الإسرائيلي، وأمسك بتلابيب السلطة في تل أبيب، عبر تحالفات سياسية قادها بنيامين نتنياهو وأحزاب اليمين المتطرف الديني اليهودية، وزاد في تشدده لدرجة قسمت المجتمع اليهودي في إسرائيل، حينما تم إعادة الانتخابات خمس مرات، واندلعت المظاهرات التي عمت شوراع الدولة اليهودية طوال أشهر عديدة، بعد عدة قوانين نجح نتنياهو في تمرير بعضها في الكنيست، وفشل في تطبيق البعض الآخر.
جل منطق اليمين الإسرائيلي يستند إلى ادعاءات دينية تطالب بالضفة الغربية على أنها (يهودا والسامرة) التوراتية، وترغب في استمرار الاستيطان ونكران القضية الفلسطينية، وادعاءات تهجير الشعب الفلسطيني إلى الأردن أو مصر.
أما الرافض الثاني فهو اليمين المتشدد فيما يسمى "حلف المقاومة" الذي تشدد في رفع المطالبات اللفظية بتحرير فلسطين لدرجة جعلته يحتل أربع عواصم عربية، ويدمر شعوب شرق المتوسط ويغرقها في أتون حروب غير منتهية بحجة فتح طريق القدس، على الرغم من قبول السلطة الفلسطينية مبدأ حل الدولتين العادل والشامل، والذي يمنح الشعب الفلسطيني دولة كاملة السيادة. لكن "الحلف" حينما أزفت الساعة تراجع عن المعركة، لأنها بالنسبة له ضرب من خيال وتلاعب بالقضية الفلسطينية لا أكثر.
"حلف المقاومة" يدعم سلطة الأمر الواقع في غزة، ويمدها بالسلاح وهي بالتالي تتبنى طروحات "الحلف" السياسية مجبرةً حسب تصريحات قادته، لأن خيار المقاومة بالنسبة لها هو خيار وجودي، وليس لعبة سياسية، أو تلاعباً بالقضية الأخلاقية والوطنية الكبرى، التي تمس شعوب الشرق الأوسط والشعب العربي برمته، والتي لا مساومة فيها، فيما حوّل "الحلف" القضية إلى ورقة مساومة. متخلياً عن الشعب الفلسطيني في أحلك ساعات العدوان والظلم.
في 1993، وافقت السلطة الفلسطينية على اتفاقية أوسلو، ووصل الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات إلى غزة في أولى زياراته السيادية إلى أراضي الدولة الفلسطينية. وسط ارتياح شعبي كبير، ولكن سلطات اليمين الإسرائيلي بدأت رحلة طويلة في وضع العراقيل والمطبات في وجه الاتفاق بغية إفشاله وتقويضه، متناسية أن القضية الفلسطينية هي قضية حق لشعب يطالب بدولته وأرضه. بينما نحن اليوم أمام مطالبات شعبية عالمية بضرورة إنهاء الاحتلال، وفرض دولة للشعب الفلسطيني ذات سيادة كاملة، ورغم هذا لا يبدو اليمين الإسرائيلي واليمين في طهران متجاوباً مع الصوت الشعبي والرسمي الدولي. لذا فلا حل للدولتين ينهي الصراع العربي الإسرائيلي، إلا بسقوط اليمين في تل أبيب، واليمين في طهران.
المصدر: تلفزيون سوريا