أسامة أبو ارشيد
في الاجتماع الوزاري الذي عقده مجلس الأمن، الأربعاء الماضي، لمناقشة العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وتحديداً في قطاع غزّة، تبارز وزراء خارجية عرب في رفع نبرة الخطاب الذي يدين إسرائيل وسياساتها الوحشية بحقّ الفلسطينيين. كانت كلمات المسؤولين العرب في غالبها عالية السقف وشافية للصدور، مثل الحديث أن "الدفاع عن النفس" لا ينطبق على ما ترتكبه إسرائيل من جرائم فظيعة، أو أن إسرائيل لا يمكنها أن تتوقّع سلاماً وأمناً في حين تحتل الأرض الفلسطينية وتقمع شعبها، أو في الدعوة إلى إيصال المساعدات إلى قطاع غزّة من دون تأخير أو تعويق. المشكلة أن أياً من تلك الخطابات لن يُحدث التغيير الضروري وبالسرعة المطلوبة (حتى لا نقلل من أهميتها كلياً) ذلك أن الولايات المتحدة، درع الدولة العبرية المتين، لم تصل بعد إلى قناعة مفادها بأن حلفاءها العرب الحانقين قد يتمرّدون عليها في القريب العاجل وعلى حساباتها ومصالحها في المنطقة.
قبل ذلك، كانت القمّة العربية والإسلامية المشتركة التي انعقدت في الرياض، (11 نوفمبر / تشرين الثاني، 2023)، قد دعت في بيانها الختامي "إلى كسر الحصار على غزّة، وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية عربية وإسلامية ودولية تشمل الغذاء والدواء والوقود إلى القطاع بشكل فوري، ومشاركة المنظّمات الدولية في هذه العملية، وضرورة دخول هذه المنظّمات إلى القطاع، وحماية طواقمها وتمكينها من القيام بدورها بشكل كامل، ودعم وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)". كما أكد البيان على "دعم كل ما تتخذه جمهورية مصر العربية من خطوات لمواجهة تبعات العدوان الإسرائيلي الغاشم على غزة، وإسناد جهودها لإدخال المساعدات إلى القطاع بشكل فوري ومستدام وكاف"، مشدّداً "على ضرورة رفع الحصار الذي تفرضه إسرائيل منذ سنوات على القطاع". هذه المطالب عادلة وفي محلها، غير أننا لا نجد جواباً منطقياً عن عجز 57 دولة عربية وإسلامية، تمثل ملياري إنسان، عن تأمين فتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزة لإدخال المساعدات الإنسانية إلى القطاع المنكوب. لماذا تحتاج كل تلك الدول إلى مناشدة دولة أو دول مبنية للمجهول لـ"كسر الحصار على غزة، وفرض إدخال قوافل مساعدات إنسانية" إليه؟
لا أريد هنا الانجرار إلى مناقشة مواقف بعض تلك الدول العربية والإسلامية المخزية، المتحالفة مع الدولة العبرية، والمتواطئة ضد الفلسطينيين، ممن فضحتها تصريحات مسؤولين فيها، أيدت المعتدي ولامت الضحية، فذلك مكشوف ومعلن. لكن، ألم يئن الأوان حتى تتمرّد تلك الدول على الإذلال الممنهج الذي تمارسه الولايات المتحدة، تحديداً، والغرب عموماً بحقّها وحقّ شعوبها؟ حتى متى سيبقى هؤلاء يستجدون عطف واشنطن وتفهمها ورضاها، وهي الأمور التي لا تكاد تأتي أبداً؟ وكيف لمن لا يزال يعتمد في مقارباته الأمنية، الوطنية والقومية، على الولايات المتحدة أن يقلب لها ظهر المجنِّ بشكل صريح ومباشر؟
بنية النظام الدولي غير مؤسسةٍ، فعلياً وعملياً، على العدالة وصون الحقوق. صحيحٌ أن ثمّة معايير وقوانين ومعاهدات واتفاقات وإعلانات دولية، يقال إنها ملزمة، إلا أن الحقيقة أنه يتم التعامل معها بانتقائية. لا تخضع الدول القوية لـ"قواعد النظام الدولي" ولا تلقي لها بالاً، أما الدول الضعيفة فكثيراً ما ينتهي بها الحال ضحية لها. هذا الواقع المؤسف والكارثي بآن يشير إلى أن العالم مجرّد غابة تتحكّم بها وحوش كاسرة لا تعدم صراعات بينها. وفي هذه الغابة، تمثل القوة الحقّ، أما الحقّ الذي لا تسنده قوة فليست له قيمة ولا اعتبار. تجسّد واشنطن الوحش الكاسر الأعتى في هذا العالم الذي يعطي نفسه الحقّ أن يغزو ويقتل ويدمر، من دون انتظار "تفويض أممي"، كما فعلت في العراق، عام 2003، في الوقت الذي تشهر ورقة "المعايير الأخلاقية" و"القانون الدولي" في وجه من يخالفون سياساتها، كما في حالة غزو روسيا أوكرانيا. ليس هذا فحسب، بل تعطي واشنطن نفسها الحق الحصري في أن تقرّر المنظومة القيمية والأخلاقية والقانونية حتى لو كان التناقض الفاضح عمادها، كما في تكييفها المقاومة الأوكرانية لروسيا أنها "مشروعة"، في حين تكيف المقاومة الفلسطينية للاحتلال والعدوان الإسرائيلي أنها "إرهابية".
إسرائيل، ربيبة الغرب الإمبريالي وامتداده، تدرك الماهية التي عليها العالم المبتلى بالبلطجة والتنمر الذي لا يحترم الضعفاء. وبالتالي، لا تتردّد في إذلال حتى الذين يخطبون ودّها فلسطينياً وعربياً وإسلامياً. وحتى لا نلقي الكلام على عواهنه هنا، نعود إلى البيان الختامي للقمّة العربية والإسلامية المشتركة المشار إليه، والذي بعد أن أطلق كل المناشدات والمطالبات بـ"كسر الحصار على غزّة" انتهى إلى استجداء السلام مع إسرائيل، حتى وهي ترتكب إبادة ونكبة جديدة في قطاع غزة والضفة الغربية. "(نؤكد) على التمسك بالسلام كخيار استراتيجي، لإنهاء الاحتلال الإسرائيلي وحلِّ الصراع العربي الإسرائيلي وفق القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، بما فيها قرارات مجلس الأمن، والتأكيد على التمسّك بمبادرة السلام العربية لعام 2002 بكافة عناصرها وأولوياتها، وعقد مؤتمر دولي للسلام في أقرب وقت ممكن تنطلق من خلاله عملية سلام ذات مصداقية على أساس القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ومبدأ الأرض مقابل السلام، ضمن إطار زمني محدد وبضمانات دولية تفضي إلى إنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأرض الفلسطينية المحتلة، بما فيها القدس الشرقية، والجولان السوري المحتل ومزارع شبعا وتلال كفر شوبا وخراج بلدة الماري اللبنانية، وتنفيذ حل الدولتين". ذلك ما جاء في البيان الختامي لـ57 دولة عربية وإسلامية، وهي مطالب وهمية ممن يعجزون حتى عن فتح معبر رفح، الذي الأصل أنه مصري عربي إسلامي مع قطاع غزّة، لإدخال مساعدات إنسانية عبره.
في اجتماع مجلس الأمن سابق الذكر، أعاد بعض المسؤولين العرب استجداء "السلام" وحلَّ الدولتين أمام المجلس. ولكنهم لم يجيبوا عن السؤال الأهم: كيف يمكن لكم أن تحقّقوا ذلك، في حين أنكم عاجزون عن أن تفرضوا احترامكم على الولايات المتحدة، والغرب، وحتى إسرائيل؟ قدر الضعفاء، سواء نتيجة عوامل موضوعية أم ذاتية، ألا يلقى لهم بال ولا يعطى لهم وزن. لكن، الضعف العربي والإسلامي ليس حتمية تاريخية، ولا يحتاج أيضاً إلى دخول حرب، لا مع إسرائيل ولا مع الولايات المتحدة. كل ما يتطلبه الأمر أن يتفق عدد من الدول، في ما بينها، مركزية وغيرها، على أنها لن تساوم على مصالحها الوطنية ولا على أمنها القومي. حينها، لن تجد إلا مواءمة أميركية في مقاربتها الوضع القائم، وستضطرّ إلى الضغط على إسرائيل لوقف عدوانها على الأقل، ولتكن لها عبرة في اضطرار واشنطن وتل أبيب مكرهتيْن إلى التفاوض مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزّة. ولكن، أنَّى ذلك، وأغلب الدول العربية والإسلامية بأسها بينها أشدّ من استيائها من أميركا وغضبها على إسرائيل؟
المصدر: العربي الجديد