بسام يوسف
أطلق مركز "حرمون للدراسات المعاصرة" منذ سنتين ونصف حواراً بين السوريين، بهدف التوصل إلى صيغة توافقات وطنية عامة، يُمكن البناء عليها في مرحلة لاحقة من مراحل سعيهم لإنشاء دولتهم الحديثة، وهو حوار بالغ الأهمية، وبالغ الضرورة، والأهم أنه يعتمد منهجية غابت عن معظم حوارات السوريين السابقة، فهو يتصدى للقضايا الأكثر سخونة وتبايناً، وتشارك فيه وجهات نظر متعددة، وربما متضادّة، ويدار بحيادية وبمسؤولية علمية ومهنية، وهو أخيراً، يحاول أن يشرك أكبر شريحة من السوريين على اختلاف ميولهم وانتماءاتهم وآرائهم.
منذ ثلاثة أشهر انطلقت المرحلة الثالثة من هذا الحوار، بهدف توسيع دائرة الحوار ليشمل شرائح أوسع، وبحيث يكسر الحالة السائدة في حصره ضمن شريحة ضيقة من السوريين، وإطلاقه بين فئات وشرائح جديدة، لم تكن حاضرة سابقاً.
في المحور الأول تم الحوار حول المشكلة الطائفية في سوريا، وعقدت خمس ندوات شارك فيها على التوالي ممثلون عن: منتديات الحوار، القوى السياسية، المجتمع المدني، الشخصيات الدينية، والشخصيات الإعلامية.
سأتطرق باختصار شديد إلى أهم التقاطعات الأساسية العامة التي ظهرت في الندوات الخمس المذكورة، ولن أدخل في تفاصيل هذه التقاطعات(1)، لأنها ستظهر لاحقاً في المخرجات العامة للحوار، ولأن ما أود الحديث عنه في هذا المقال، ليس ما اتفق المتحاورون عليه، بل هي تلك الأفكار التي طرحت بشكل منفرد، وحاولت أن تتناول موضوع الحوار من وجهة نظر قلما تطرح، لكن ولأهميتها برأيي، فإن نقاشها وطرحها للنقاش وللتداول، قد يسهم إلى حد ما في تشكيل رأي مختلف، أو في إضافة وجه آخر لفهمنا للطائفية، هذا لا يعني أنني أتبنى هذه الأفكار، لكنه يعني بالتأكيد أنني أرى أهمية لها في إغناء الحوار وتوسيعه.
في التقاطعات العامة:
تكاد أغلب آراء المشاركين في كل الندوات، أن تجمع على أن المشكلة الطائفية في سوريا لم تنشأ بسبب تنوع التركيبة الطائفية في سوريا، أو بسبب تناقض مصالح هذه الطوائف، بل تكمن أساساً في الاستثمار السياسي فيها، وبشكل أساسي في استثمار السلطة فيها، سواء في مرحلة الاحتلالات قبل الاستقلال، أو في مرحلة ما بعد الاستقلال، لكن المرحلة الأكثر استثماراً كانت بالتأكيد تلك التي أعقبت وصول حزب البعث إلى السلطة 1963م، وعلى نحو أكثر تحديدا بعد استيلاء حافظ الأسد وابنه من بعده على السلطة في سوريا.
أيضاً، من التقاطعات العامة التي وردت في الحوارات، أن شدة التوتر الطائفي في المجتمع السوري تتعلق أساساً بعمق الأزمة السياسية فيه، وأن تراجع الأزمة السياسية سينتج عنه بالضرورة تراجعاً في التوتر الطائفي، وفي السياق نفسه، كان هناك رأي يكاد يكون عاماً، يرى أن نقاش القضية الطائفية منفردة ليس صائباً، فهي شأنها شأن عصبيات أخرى موجودة في المجتمع السوري مثل القومية، والمذهبية، والقبلية الخ، وأن الحوار حول هذه العصبيات كلها معاً سيكون أكثر جدوى في فهم الأزمة الراهنة في سوريا.
أخيراً، وفي التقاطعات العامة ركز أغلب المتحاورين على أن غياب دور الدولة الحقيقي، وغياب الأحزاب السياسية، ومنظمات المجتمع المدني وكل ما من شأنه أن يعزز من قوة وتماسك النسيج الاجتماعي داخل أي مجتمع، كان قد لعب دوراً رئيسياً في تشظي المجتمع السوري، ونكوص أفراده إلى عصبيات أخرى.
في الآراء المنفردة:
قبل الخوض في استعراض هذه الآراء، لا بد من القول إنني لا أقصد بالآراء المنفردة أنها ذكرت من قبل مشارك واحد، فهي وإن ذكرت من قبل أكثر من مشارك، إلا أنها بدت كأنها هامشية في سياق الحوار العام، وظهرت هامشيتها عندما لم تُلحظ في أثناء طرح الحلول والمعالجات والمآلات.
الرأي الأول: يحتم نقاش أي قضية تخص الشأن السوري اليوم ومنها المشكلة الطائفية ملاحظة النقاط الآتية:
الثورة السورية انتهت في نهاية عام 2011م، وما يجري بعد ذلك هو تداعيات صراع إقليمي محلي عربي على سوريا، والقوى السورية الحاضرة فيه حاليا لا تعكس بنية المجتمع السوري، ولا مصالح جهاته أو أطرافه فيه، إنها قوى تعمل بالوكالة عن أطراف خارجية، وإذا كانت الثورة في جوهرها تعبير عن وجود خلل في توزيع الثروة، ينعكس اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً، فإنها لم تعد وفق القوى الراهنة انعكاس لهذا الخلل.
الصراع في سوريا سيبقى، لأن الجماعات البشرية في سوريا لم تتحول إلى شعب على المستوى السياسي، ومفهوم الأكثرية والأقلية هو مفهوم ليس طائفياً فقط، بل هو أيضاً مفهوم مناطقي وإثني و..و.. أي مفهوم كمي وليس سياسيا.
الخروج من الحالة الراهنة يرتكز أولاً على إعادة إنتاج الاقتصاد المحلي، وإزاحة اقتصاد الحرب.
الرأي الثاني: إذا كانت المواطنة المتساوية هي الركيزة الأهم في مواجهة العصبيات سواء الطائفية أو غيرها، فإن العقبة الأهم في مجتمعنا السوري، إنما تكمن في الفهم الإسلامي المتداول للدولة، فهو فهم ماضوي، يبحث عن فكرة الإمبراطورية الإسلامية، ويحلم بهذا الماضي وأمجاده، متناسياً أن زمن الإمبراطوريات انتهى، وأن البشرية انتقلت إلى صيغة الدولة الحديثة، وبالتالي فإن مشكلة التيار الإسلامي السياسي، هي في عدم اعترافه بالدولة الحديثة، وعدم اعترافه بالمواطنة.
الرأي الثالث(2): يجب أن نجيب أولاً على سؤال: هل الطائفية منتج ديني، أم اجتماعي أم سياسي كي نستطيع تفكيك بنيتها وفهمها جيداً، كما أنه من المهم هنا أن نميز بين مصطلحين مختلفين، الأول هو الطوائفية، ويعني أنه في مجتمع ما قد توجد مذاهب ومعتقدات وأديان، وتتشارك الحيز الزماني والمكاني، لكن هذا ليس هو المشكلة، لا بل على العكس فإن هذا هو تعبير عن مجتمع صحي متنوع، فالتنوع هو من صلب الطبيعة البشرية، والمصطلح الثاني هو الطائفية، وهو مصطلح مفاهيمي يعبر عن إيديولوجيا، وعن نظرة خاصة للذات وللآخر، وتعتمد في تعريفها للذات على التضاد مع الآخر، أي على المغايرة الضدية مع الآخر، أي أن ما يعرّفني هو ما ليس الآخر عليه، هذه الإيديولوجيا تتحول في الواقع المجتمعي إلى أداة تشظي المجتمع، وتفصل مجموعاته عن بعضها، فتحصر الأفراد ضمن حلقات ضيقة مغلقة، وبناء على هذين المصطلحين، فإن صاحب الرأي يرى أن المشهد السوري بعيد عن الطائفية، وأنه لا يزال ضمن الطوائفية.
الرأي الرابع: القول بـ "أزمة طائفية"، أو "مسألة طائفية" أو "مشكلة طائفية" ليس صحيحاً، فهو يعطيها صفة المؤقت، الطائفية في سوريا تاريخية، متجّذرة ومستمرة، وهي موجودة في دول أخرى كثيرة في العالم، وتقدمها أو تراجعها يتعلق بتقدم وتراجع الأزمات المجتمعية. في بعض الدول توجد طائفية سياسية، لكن في سوريا لا يمكن الحديث عن طائفية سياسية، لسبب أساسي، وهو أنه لا وجود لحياة سياسية أصلاً في سوريا.
لا حل للطائفية في سوريا بلا إصلاح ديني، وعندما نتحدث في سوريا عن الإصلاح الديني، يتبادر إلى ذهن كثيرين أن المقصود هو الإسلام "السني" حصراً، لكن الحقيقة أن حاجة الطوائف الأخرى للإصلاح الديني، لا تقل ضرورة وأهمية، عن ضرورة الإصلاح الديني في الإسلام السني.
الرأي الخامس: لحل المشكلة الطائفية، لا بد من تصويب علاقة رجال الدين بالدين، وما نراه في الوقت الراهن من صراعات واختلافات في فهم الأديان عموما، وفي انقساماتها، إنما مرده لرجال الدين ولعلاقتهم بالسلطة السياسية.
الرأي السادس: الطائفية في جوهرها هي أداة توظيف سياسي، للإبقاء على علاقة التبعية بين طرفين هما السلطة والشعب، ولا يمكن فهم الطائفية انطلاقاً من إيديولوجيا أخرى، أو من نظام فكري آخر، ولفهمها جيداً، يجب الانطلاق من كونها -أساساً- تعبيرا مكثّفا عن أزمة مجتمعية، لذا لا بد للخروج منها من البحث عن البعد السياسي، والطبقي والبنيوي لها، ويجب التركيز على أن الطائفية تشبه العنصرية، وهي تسحق مهما يكن الخطاب الذي تقوله القوى الديمقراطية الوطنية، وثقافة المواطنة والديمقراطية.
الرأي السابع: إن الحوارات الكثيرة التي تدور حول الطائفية اليوم، وتداول استعمالها كثيراً، قد يؤدي إلى تكريسها سياسياً لاحقاً، وهنا تكمن الكارثة، بعبارة أخرى: أوقفوا الحديث عن الطائفية.
لا تزال معظم مقاربات السوريين لقضاياهم الراهنة المعقّدة، تنطلق إما من مقدمات كلاسيكية في معظمها، تم تبنيها في سيرورة بناء الدولة الوطنية السورية، عقب الاستقلال وما بعده وما رافقهم من أفكار كانت سائدة عالميا في حينها، وخصوصاً بعد وصول حزب البعث العربي الاشتراكي إلى السلطة 1963م، أو من الرفض الكامل لهذه المقدمات، وتحميلها كامل المسؤولية عن المآل الذي وصلنا إليه، وفي كلتا الحالتين يغيب التفكير النقدي الموضوعي، والمنهج العلمي في مقاربات الواقع الراهن، ولعل مردّ احتفاظ هذه المقدمات الكلاسيكية المتداولة بحضورها سواء بالتأييد المنفعل، أو بالرفض المنفعل، عائد بشكل أساسي إلى إغلاق نوافذ الحوار، وتكفير الاختلاف، وانعدام الحياة السياسية، وتفرد السلطة بإنتاج الثقافة، والسياسة والاقتصاد بما يتناسب مع مصالحها أساساً، لكن تحت يافطة ما من هذه الكلاسيكيات طوال عقود طويلة.
المصدر: تلفزيون سوريا