سمير الزبن
في تبرير عدوانها الوحشي على قطاع غزّة، بعد عملية طوفان الأقصى، باشرت إسرائيل وضع نفسها في سياق السردية الغربية عن الحرب العالمية على الإرهاب التي تقودها الولايات المتحدة، والتي اختصرها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، بأنها "حرب الحضارة ضد الهمجية"، معتبراً أن ما تقوم به إسرائيل "دفاع عن النفس"، وهذا الدفاع هو "حرب استقلال إسرائيل الثانية" حسب منطق نتنياهو. ولا يتحقّق الاستقلال الثاني إلا بسفك الدم الفلسطيني، وإيقاع "نكبة ثانية" بالفلسطينيين في هذه الحرب، كما جاء في شروح وزراء إسرائيليين عن الغرض من هذه الحرب التي يقترب ضحاياها الفلسطينيون من 15 ألف شهيد، وعشرات آلاف الجرحى، ومئات آلاف المهجّرين، وعشرات آلاف الأبنية المهدّمة، التي باتت غير صالحة للسكن. وستزداد هذه الخسائر بشكل مطّرد مع استمرار الحرب العدوانية على قطاع غزّة واستئنافها بعد هدنة التبادل.
ليس من الغريب أن تضع إسرائيل نفسها في سياق السردية الغربية، فهي تدّعي، دائماً، أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة في محيطٍ من الاستبداد، وأنها الحصن الأول في الدفاع عن الحضارة في وسط متوحّش. تتجاهل الادّعاءات الإسرائيلية واقع الصراع الذي سرديته الحقيقية تقول إن إسرائيل جلاد والفلسطينيين ضحايا، وهي تقلب هذه السردية، وتدّعي أنها هدف الإرهاب الفلسطيني، وكأنه ليس هناك جريمة كبرى ارتُكبت بحقّ الفلسطينيين في جريمة إبادة جماعية وتهجير قسري، أخذت طابع اقتلاع شعب كامل من وطنه، ومنعه من العودة إلى دياره. ولم تمارس إسرائيل حروبا عدوانية على دول المنطقة، ولم تمارس الحروب على قطاع غزّة، ولم تزرع عشرات المستوطنات ومئات آلاف الإسرائيليين في الأراضي الفلسطينية المحتلة، ولم تقتل الفلسطينيين يومياً، وليس للفلسطينيين حقوق وطنية وفردية تنكرها إسرائيل عليهم. هذا كله غير موجود، يقتل الفلسطينيون الإسرائيليين ليس لأن لهم حقوقا مسلوبة، بل لأنهم متوحّشون يكرهون الحضارة التي تمثلها إسرائيل، هكذا هي السردية الإسرائيلية.
هذا ليس جديداً على إسرائيل. الجديد في هذه الحرب تبنّي الغرب الكامل الخطاب الإسرائيلي، بوصفه امتداداً للخطاب الغربي، ويقع في مركزه، واعتبار إسرائيل جزءاً من هذا الخطاب، وتكرار ما يقوله الإسرائيليون عن هذه الحرب بوصفها "دفاعاً عن النفس". وفي إطار الدعم الكامل لإسرائيل، جاء الحجيج الغربي الذي تقاطر على إسرائيل، بدءا من الرئيس الأميركي جو بايدن، مروراً بالمستشار الألماني، أولاف شولتس، وبالرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، وصولاً إلى رئيس الوزراء البريطاني، ريشي سوناك، وغيرهم ممن توافدوا على إسرائيل للتعبير عن دعمهم حربها "ضد الإرهاب".
لم يتردّد الرئيس الأميركي، بايدن، بالمماثلة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، واعتبار عملية طوفان الأقصى مشابهة لهجوم 11 سبتمبر على الولايات المتحدة، بل اعتبر أيضا أن العملية في غلاف غزّة تساوي خمس عشرة عملية من ذلك الهجوم في العام 2011. وسرعان ما أرسل حاملة طائرات إلى البحر المتوسط لحماية إسرائيل، وأقر مساعدات عاجلة، وعاد وأرسل حاملة طائرات ثانية إلى المنطقة. أما المستشار الألماني شولتس فقال في أثناء زيارته التضامنية مع إسرائيل "أمن إسرائيل ومواطنيها مصلحةٌ وطنيةٌ ألمانية. ومسؤوليتنا المنبثقة عن الهولوكوست تُملي علينا أن ندافع عن وجود دولة إسرائيل وأمنها". كما دعا الرئيس الفرنسي، ماكرون، في زيارته إسرائيل أيضاً إلى توسيع نطاق التحالف الدولي الذي يحارب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ليضم الجيش الإسرائيلي في حربه المتواصلة على قطاع غزّة، وأكد ضرورة قتال حركة حماس "بلا رحمة".
لم يقتصر دعم إسرائيل على المواقف اللفظية والدعم العسكري والمالي، بل تجاوز ذلك في الدول الأوروبية إلى تجريم التضامن مع الفلسطينيين المدنيين الذين يقصفون بالصواريخ الإسرائيلية، ومنع الرموز الوطنية الفلسطينية باعتبارها "إرهابية"، والمقصود العلم الفلسطيني والكوفية. لطالما كانت الدول الغربية منحازة لإسرائيل في الصراع في المنطقة، لكن هذا الانحياز لم يصل يوماً إلى هذا حد تكميم الأفواه كما يجري اليوم، الذي وصل إليه على خلفية حرب غزّة. وهو ما يمكن اعتباره كاشفاً لاستقطاب كتل اجتماعية داخل هذه الدول نفسها، ففي ظلّ موجة المدّ اليميني في أوروبا الذي سيطر خلاله اليمين المتشدّد على الحكم في عدة دول، إيطاليا، الدنمارك، السويد، وأخيرا هولندا، تزايد العداء للمهاجرين وللمسلمين وللمواطنين من أصول مهاجرة، حتى إن أحزابا ذات أصول نازية دفعتها كراهيتها اللاجئين والمسلمين إلى الوقوف مع إسرائيل، واعتبار أن من حقها "الدفاع عن نفسها" مع أنها فعلياً ترغب في طرد الجميع، مسلمين ويهودا. مقابل هذا الاصطفاف الأوروبي مع إسرائيل، كانت هناك معركة أخرى في هذه البلدان، ليس فقط من أجل الحرب على قطاع غزّة، بل ومن أجل منع النخب الأوروبية الحاكمة من قطع لسان اللاجئين والمواطنين من أصول غير أوروبية، والذين شعروا أنفسهم مستهدفين في هذه الحرب على نحو مباشر. لذلك، جاءت التظاهرات ضد الحرب في شوارع الدول الأوروبية، من أغلبية ساحقة لمواطنين من أصولٍ غير أوروبية، وكان هذا مؤشراً على استقطاب، بين قضايا الشمال والجنوب، حتى داخل الدول الأوروبية ذاتها.
دفعت حرب غزّة إلى تقاطع قضايا الظلم، ففي وقتٍ يجب على الفلسطينيين أن يموتوا تحت القذائف الإسرائيلية من دون احتجاج منهم ومن يتضامن معهم، وجد اللاجئون، ومن هم من أصول لاجئة، أنهم معنيون في وقف هذا القتل، ليس فقط للتضامن مع الفلسطينيين ومحاولة وقف المذبحة التي يتعرّضون لها، بل، من أجل إعلان صوتهم الذي تسعى الحكومات الأوروبية اليمينية إلى إسكاته، ليس فقط بشأن التضامن مع الفلسطينيين في قطاع غزّة الذين يتعرّضون لحرب إبادة جماعية، بل وللحفاظ على أصواتهم في احتجاجهم ضد سياسات التمييز التي يتعرّضون لها، إنه نوع من تضامن الضحايا. اليوم، يعلو الصوت من أجل غزّة، وغداً من أجل قضايا أخرى لا يريد الغرب المركزي أن يراها من الأطراف التي يرغب في اختفائها، كما تمنّى رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق رابين، غرق قطاع غزّة في البحر في أثناء الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
المصدر: العربي الجديد