صحافة

عن المعتقلات السياسيات في "نيغاتيف" روزا ياسين حسن

الخميس, 23 نوفمبر - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

مالك داغستاني


شخصياً أستمتع باللغة والسرد، حين يكتب روائي متمكّن من أدواته في حقلٍ آخر غير الرواية، حتى لو كتب عن الفيزياء أو الرياضة. وغالباً يدفعني هذا على فترات متباعدة، لإعادة قراءة الكتاب أكثر من مرة.

حدث هذا معي خصوصاً مع كتاب أمين معلوف "الحروب الصليبة كما يراها العرب" وكتابه الآخر "الهويات القاتلة"، وهو ما حدث أيضاً مع كتاب "نيغاتيف.. من ذاكرة المعتقلات السياسيات" للأديبة والروائية السورية روزا ياسين حسن، الصادر عام 2007، والذي سأتوقف عنده اليوم متأخراً سنوات طويلة.

لا أتفق كثيراً مع الكاتبة باعتبار عملها رواية توثيقية، كما عرّفتْ عنه في المقدمة، بل أذهب لوصفه بالعمل التوثيقي المكتوب بقلم أديبة وروائية.

كان لقاء مسجلاً قد جمعنا قبل عامين، الكاتب الروائي السوري مصطفى خليفة، وصاحبة نيغاتيف وأنا. خلال إجابتي عن سؤال مديرة الحوار الناشطة السورية ياسمين مرعي، هل يمكن للروائي الكتابة عن السجن بواقعه الحقيقي دون أن يكون قد عاش تجربة السجن؟ كنت منحازاً للسجين الذي يكتب بنفسه، فهو العارف بدقة بمفاعيل السجن على البشر، حيث لا يمكن للآخرين أن يشعروا بها دون معايشتها.

وافقني خليفة، ولكنّه قدّم لي استثناءً وهو روزا ياسين حسن. ليس بفعل أنها كانت حاضرة معنا، ولكن لأسباب أخرى كثيرة لا تخفى على أي متابع لأعمالها، كان مصطفى خليفة محقاً، فتراجعتُ على الفور عن إجابتي التعميمية أمام هذا المثال. فكتابة روزا لا تشبه تجربة أي كاتب آخر لم يعرف السجن، وهي التي ما كانت لتقع بتلك الهنات التي لا يقبلها مَن عرف التجربة بعمق، بسبب أنها، لشدة انغماسها لسنوات طويلة في حياة المعتقلات والمعتقلين، بدت وكأنها عاشت التجربة حقاً، فكتبت عنها وعن دقائق تفاصيلها، ليغدو من الصعوبة على من لا يعرف، أن يكتشف بأنها لم تكن سجينة يوماً.

في مقدمة كتابها تذكر "ثمة أمر رافقني طيلة فترة العمل كاد يتحوّل إلى هاجس، وهو أن أختار بين أمرين أساسيين: الوفاء للتجربة غير العادية أو الوفاء للكتابة. أنا شخصياً اخترت الأخيرة لإيماني ألّا تجربة تستمر إلا حين تُدوَّن، والضياع كتب على كل شيء لم يُنقَش في الحجر". رغم ما ورد، إلا أنني ما زلت على يقين أن الكاتبة انحازت إلى التجربة أولاً، ثم لاحقاً أوفتها حقّها بالكتابة واللغة والسرد المذهل الذي تبدى في معظم صفحات الكتاب.

بعد الخروج من السجن بسنوات، يكتشف السجين أن هناك مناطق في الروح قد عُطبت تماماً، ولم يعد بالإمكان إحياؤها. مناطق كأنها بقعة جغرافية تعرضت للإشعاع النووي فأصبحت مكاناً معزولاً لا حياة فيها. لا شجرة يمكن أن تنمو، ولا كائن حيّ يستطيع العيش فيها. إنها منطقة محروقة تماماً، بقدر ما هي حارقة، وكأن لها حوافّ مُشِعّة تحاول أن تنشر العطب إلى باقي أرجاء الروح. لقد وصلت روزا في كتابها "نيغاتيف" إلى تلك المناطق المخفية عن الآخرين، وكتبت عنها.

الزمن في السجن مكرّر حتى ليبدو أنه متوقّف، ومع ذلك يبدو أن زمن الخارج يمكن أن ينتشل السجين من هذا الاستعصاء في بلادة زمن السجن، فيغدو تحرّك الزمن هناك بدلالة زمن الخارج، وليس بذاته. الجسد وحده كان يعترف بمرور زمن السجن، فتبدأ الخطوط تظهر على الوجه، ويبدأ الشعر الأبيض بالظهور ثم التكاثر. إلى تلك التفاصيل وصل كتاب نيغاتيف وهو يروي حكايات المعتقلات السياسيات، من كافة الأطياف، في سجون الأسد الأب.

أذابت روزا الفوارق الإيديولوجية، تماماً كما تفعل سنوات السجن الطويلة بين السجناء. ليبقى المشترك الإنساني هو ما يجمع بين نزلاء ذاك المكان. في واحدة من أبدع الالتقاطات ينقل كتاب نيغاتيف عن المعتقلة اليسارية "بثينة. ت" كيف كانت تغني لزوجها في الزنزانة المقابلة في فرع فلسطين ليلاً. وكان هناك الفلسطيني اللبناني الكهل حنّا الجودة المعتقل بتهمة تزوير جوازات السفر، وكان فوق تهمته تلك وربما بسببها، يتعامل مع إدارة السجن أيضاً. كل ذلك لم يكن ليمنع ما كان سيجري يومياً. كان صوت حنا جميلاً فيغني هو أيضاً أغاني عبد الوهاب من الممر، بعد رشوة يقدمها للسجّانة. في غنائه كان وكأنه يرد على بثينة فيستمع إليهما باقي السجناء "يبدأ الثنائي، بثينة وحنّا، بالغناء الشجيّ الآسر إلى أن يبكي السجن كله"، إلى أن جاء يوم ومرض حنّا، واقتيد إلى المستشفى.

"اكتشف الأطباء أن مرض السرطان قد طال كبد حنّا الجودة بالكامل.. جلبوه من المستشفى ليودّع السجن بكل نزلائه: سجّانة ومعتقلين. وضعوا له الكرسي في الكوريدور، كما كان يحب دائماً، طيلة سنين سجنه، لكن هذه المرة بجانب مزدوجات الصبايا، ومن هناك استطاعت المعتقلات رؤيته من ثقب الباب. كان حنّا الجودة قد أضحى نحيلاً للغاية، وشاحباً كشبح. وقتئذ، وحالما لمحته بثينة على هيئته المحزنة، صارت تناديه من الداخل غناءً: "ردّي علي، كلميني"، الشيفرة التي كان يناديها بها سابقاً، لكنه بقي صامتاً هزيلاً على كرسيه ولا يرد.

أخيراً غنّت له بثينة: قديش حلوة هالشيبة، بتنقّط حسن وهيبة، بكى حنّا الجودة للمرة الأخيرة. بعد يومين، أُعيد إلى المستشفى، ومات هناك"، بهذه الطريقة وبهذا السرد الآسر، كانت روزا أمينة للتجربة.

ولكن لماذا أتحدّث هنا عن كتابٍ مضى على صدوره، أقل قليلاً من عقدين؟ الحقيقة، أني اعتقدت دائماً بأن "نيغاتيف" كتاب لم ينل حقه من الشهرة التي يستحقها، ومن اطلاع الجمهور عليه، وهو ما يستحقه الجمهور. ربما لطباعته في القاهرة وليس في سوريا أو لبنان، حيث يسهل تهريبه إلى سوريا.

ولطالما اعتبرتُه الوحيد، في بابِهِ، عربياً على الأقل حسب اطلاعي. التقت خلاله الكاتبة بعشرات المعتقلات السياسيات، وسجّلت ودوّنت قصصهم. إضافة للمعلومات والحقائق والوقائع، تمكنت روزا مع بطلاتها من استعادة حالات من الأحاسيس والمشاعر طازجة وحارّة، وكأنها قد عيشت للتوّ. لا بطولات زائفة ولا استعراض، ولا أيّ شكل من أنواع انتباج الذات، التي يصاب بها عادة من يروون تجاربهم السجنيّة باعتبارها بطولات نادرة، إنها مجرد حقائق ووقائع مروية بقلم أديبة تجيد الرواية.

    في مقالة لها نشرت في جريدة "دي تسايت" الألمانية بعنوان "نساء في مجاهل العتمة" تقول روزا ياسين حسن: في الوقت الذي كنت أعمل فيه على كتابي "نيغاتيف"، صُدمت بعوالم وحكايات لم يكن يخطر ببالي أنني أتشارك معها بلداً واحداً!

في مقالة لها نشرت في جريدة "دي تسايت" الألمانية بعنوان "نساء في مجاهل العتمة" تقول روزا ياسين حسن: في الوقت الذي كنت أعمل فيه على كتابي "نيغاتيف"، صُدمت بعوالم وحكايات لم يكن يخطر ببالي أنني أتشارك معها بلداً واحداً! فعلى الرغم من أني تربيت في بيت أب يساري معارض، إلا أنّ تفاصيل الاعتقالات كانت مغيّبة عنّا، كما عن معظم بيوت سوريا. كان الأمر أشبه بصدمة المعرفة القاتلة!... حكايات السجينات السياسيات اللواتي انتمين إلى طيف إيديولوجي واسع، يمتد من أقصى اليسار الراديكالي مروراً بالوسط القومي العربي والكردي والليبرالي، وانتهاءً باليمين المتطرف المتمثّل بالإسلاميين، قلبت حياتي برمتها، بألم تفاصيلها".

هذا المقطع بالذات يكثّف الجواب على سؤال هام: كيف استطاعت روزا ياسين حسن، وهي لم تعرف تجربة السجن، أن تكون استثناءً بين الأدباء، فتنقل عوالمه وتفاصيله، في نيغاتيف وباقي رواياتها، بتلك الدقة المترافقة مع الأحاسيس الحقيقية التي لا يعرفها سوى السجناء.

سأسمح لنفسي أن أستعير خاتمتي أيضاً من كتاب نيغاتيف. بلغةٍ طفولية، كتبت جود، وهي ابنة زوجين معتقلين لسنوات (حميدة ت، وغياث ج) عندما كان عمرها ثماني سنوات، على دفترها المدرسي: "باسمِ أمي وأبي: لماذا كل الناس مظلومون في السجن. هذا ليس من القانون. أرجو من الجميع الانتباه جيداً". وسوف أتطوّع شخصياً، بإجابةٍ متأخرة سنوات طويلة. إجابة ستبدو طفولية أيضاً. الجميع منتبهٌ يا ابنتي، بل والجميع غدا يعرف تفاصيل حكايات السجن السوري، ولكن أحداً لم يفعل بعد، ما يجعل تلك التراجيديا تنتهي.


المصدر: تلفزيون سوريا

الوسوم :