محمد برو
هل أصبحت الأزمة السورية واستمرارها، واستمرار المقتلة المعلنة فيها كل يوم أمراً عاديا وطبيعيا، يتقبله الناس دون رد فعل ودون استياء، هل أصبحت الملايين المهجرة من السوريين ومئات الآلاف من المقتولين والمغيبين قسراً أمرا معتاداً، وغير جدير باهتمام وسائل الإعلام، هل غيبت الحرب الروسية الأوكرانية الحدث السوري وأخرجته من دائرة الاهتمام، وهل الحرب اليوم على غزة ستدفعه للخلف أكثر، فلا يعود أكثر من مجرد ذكرى وأحداث مكررة لم يعد يقال بحقها كلام جديد.
معلوم أن التكرار الطويل لأي حدث، يفقده القدرة على التأثير سلبا أو إيجابا، ويكف عن كونه مدهشاً أو ممتعا أو مؤلما. ويغدو أي أمر جلل بفعل تقادم الزمن والتكرار أمراً عاديا ومألوفا، وتفقد النفس الإنسانية القدرة على التأثر به أو الانفعال حياله، وبالتالي تفقد معها إمكانية رد الفعل، وهنا تكمن نقطة الخطر فيه، فلا ينبغي أن يكون استبداد الشر وشيوع القتل وسلب الحرية والتدمير اليومي وشيوع التفاهة أمرا عاديا أو مقبولا، وللأسف الشديد هذا يحصل تلقائيا وفق طبيعة الأشياء وطبيعة الإنسان. ومن هنا تبرز أهمية الاستمرار على تأكيد الموقف الأولي والإصرار عليه باستمرار، وليس فقط في إحياء الذكرى وجعلها حاضرة غير بعيدة وملتصقة بحياتنا اليومية، إنما مع الإصرار الصعب على النظر إليها والتحرك حيالها بشكل مقاوم ورافض، وإلا ضاعت الحقوق وتبددت الأرواح والدماء من دون طائل، كل هذا لا يمكن إنجازه بفعل فردي مهما كان مقاوماً ومؤمنا بأهميته، فالنفس من طبيعتها تجنح للخلاص وللنجاة والتحلل من المهام الصعبة، وتطلب الشفاء من أي معاناة.
في المشهد السوري جميعنا نذكر عندما كان النظام الأسدي يرتكب مجزرة في قرية أو بلدة ما، فإن الإعلام والناشطين وقادة الرأي والمثقفين، كانوا سرعان ما يركزون الجهود لتوثيقها وتوضيح الصورة واستنكارها وإدانة الجريمة، والمطالبة بمحاكمة فاعليها، لكن مع إصرار النظام على تكرار جرائمه ومجازره بدأ الاهتمام والتأثر يتضاءل بشكل كبير، وأصبح خبر مجزرة سورية حصلت بالأمس خبرا سابعا أو عاشرا في نشرات الأخبار الرئيسية.
هل ستصبح القضية السورية والمقتلة السورية المستمرة نسياً منسياً؟ بالأمس تحول الإعلام العالمي عن الاهتمام بما يجري في المنطقة العربية عموما، من العراق حتى اليمن، وبات يصب اهتمامه كليا على الحرب الدائرة بين روسيا وأوكرانيا، واليوم أعادته المجازر المستمرة في غزة إلى الاهتمام ثانية بمنطقتنا، وقد شهدنا كيف يتحول الرأي العام العالمي الشعبي بفعل ناشطين منظمين، يعملون كل دقيقة لإيصال صوت أهالي غزة وأطفالهم الأبرياء إلى أسماع العالم، بعد أن تواطأت كبرى الدول الغربية ومؤسساتها الإعلامية، على تشويه وطمس الحقائق، وبفعل هؤلاء الأبطال نشهد اليوم ثوره في كبرى مدن العالم، من شعوب وأعراق وديانات شتى، تنادي بوقف المقتلة في قطاع غزة. جميع هذا لم يحصل عبثا ولا عفو الخاطر بل بإصرار شباب غزاويين منظمين ومؤمنين بما يتوجب عليهم جميعاً فعله، فأرغموا العالم على سماع صوتهم.
ما كشفته المتابعات على مدار الدقائق للكارثة في غزة، أن الشطر الكبير من المتابعين السوريين كانوا متمركزين على متابعة الإجرام الذي يحصل في غزة المقاومة، مع العلم أن تمادي الإجرام الكارثي الذي كان يجري بالوقت ذاته من قصف وتقتيل مستمر، عبر الطائرات الروسية والقوات الأسدية وحلفائها في منطقة إدلب وغيرها، لم ينل إلا شطراً ضئيلا من هذه المتابعات. هل فقدنا نحن السوريين الإحساس بجدوى ما يمكننا فعله، وهل تملكنا إحساس عميق بفشل الهيئات التي مثلت المعارضة، وعجزت عن إيصال صوت السوريين كما فعل أهل غزة؟
مما يعزز هذه الظاهرة "أن يصبح القتل والإجرام فعلا عاديا مألوفا" والتي يبذل المستبدون الجهد الحثيث لتكريسها، وجعلها ذات فاعلية مؤثرة، هو شيوع مظاهر العنف بشكل يومي عبر وسائل التواصل والأخبار اليومية، والإنتاج السينمائي والتلفزيوني الحافل بآلاف وربما بملايين مشاهد الرعب والعنف، والتي تجعل من البؤس والعنف المعاش ظاهرة طبيعية ومألوفة، وربما أقل فظاعة مما نتداوله يوميا عبر المنصات والشاشات الرقمية، ويكفي أن نلقي نظرة خاطفة على منصات الأفلام المدفوعة مثل أمازون ونيتفليكس وغيرها كثير، لنكتشف أن هناك صناعة مبهرة في تجميل العنف والشر والقتل وجعلها مثيرة ومقبولة، أو محببة للمتابعين لا سيما الشباب منهم.
من المؤكد أن تراكم الوعي المستمر، والإصرار على تحكيم القيم يومياً، وفعل هذا عبر تشكيلات بشرية معززة "ربما لا تكون أحزابا أو جماعات بعينها"، وربما أسهمت المجموعات الحديثة من الشباب عبر شبكات التواصل، في تعزيز هذه البنية المقاومة للتطبيع، ونشهد اليوم ما لهذه المجموعات من تأثير متنامٍ في خلق رأي عام عالمي تجاه القضايا الساخنة، وربما كان هذا واحداً من الحلول التي يمكن للجميع المشاركة فيه كي لا تصبح المقتلة السورية ذات يوم، حكاية منسية عفا عليها الزمان.
المصدر: تلفزيون سوريا