صحافة

متى وكيف سيكون "طوفان الأقصى-2"؟

الثلاثاء, 10 أكتوبر - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

عمر قدور


لا نعرف توقيت عملية "طوفان الأقصى-2"، فقط لدينا من المعطيات ما يقول بشبه يقين أنها آتية. عملية طوفان الأقصى الأولى تقول ذلك بمعزل عن الشعارات والاحتفالات، وبمعزل عن أصحاب "التفاؤل التاريخي" بحتمية انتصار أصحاب الحق. لقد أثبت هجوم حماس حتى الآن قدرة الفلسطينيين، الموجودين تحت المراقبة الإسرائيلية، على حشد الإمكانيات وشنّ هجوم مباغت واسع النطاق ألحق خسائر باهظة بالجانب الإسرائيلي. ما يُقال عن دعم إيراني، ومشاركة حتى في التخطيط للهجوم، له تأثير لجهة الاصطفافات السياسية الحالية فحسب، بينما لا يستبعد تحالفاتٍ فلسطينية مستقبلية من ضمن الصراع في المنطقة وعليها، ليعزّز من احتمال حدوث دورة عنف جديدة.

الخسائر الإسرائيلية لا تُقاس فقط بأعداد القتلى والمصابين، فغداً عندما ستبدأ المحاسبة ويبدأ التخطيط لاستباق "طوفان الأقصى-2" سيظهر حجم المطلوب لتلافي ما ظهر من تقصير عسكري واستخباراتي. الحديث في الأوساط الإسرائيلية عن التقصير بدأ في اليوم نفسه، بعد ساعات قليلة ليس إلا. هو حديث سهل بسيط تقليدي، يعتمد على وجود ثغرات في النظام الأمني؛ ينبغي محاسبة المسؤولين عن عدم كماله، ثم سدّ الثغرات بحيث لا يستطيع "العدو" اختراق النظام الذي صار مُحكماً أكثر من قبل.

لكن ما يبدو بسيطاً وبديهياً في التفكير السابق سيكون مُكلفاً جداً، لأن سدّ ثغرات النظام "أو وهْم فعل ذلك" يتطلب إنفاقاً متزايداً في الجانب العسكري والتكنولوجي، وإنفاقاً مستداماً على خطوط الفصل بين الإسرائيليين والفلسطينيين. الأهم أن الوقوع في دوامة سدّ ثغرات النظام يعني الدوران بلا نهاية في الحلقة ذاتها، للوصول في وقت طال أو قصُر إلى الخلاصة التي تفيد بعجز النظام عن أن يكون كاملاً.

إن تقليدية التفكير السابق تعني استخدام أساليب ردع تقليدية في ظل تطورات غير تقليدية، لا على الصعيد الإسرائيلي-الفلسطيني وحده وإنما على صعيد العالم ككل. من ضمن ما يحدث عالمياً، ولم تظهر نتائجه الفادحة بعد، أن احتكار وسائل العنف يصبح مستحيلاً يوماً بعد يوم، والحديث هنا عن وسائل عالية تكنولوجياً كان تُعتبر إلى وقت قريب من الأسرار الموجودة في حوزة دول قليلة متطورة. كُسِر الاحتكار التكنولوجي، وابتُدعت أسلحة جديدة، ومع كسر الاحتكار انتهى المفهوم القديم للسيطرة على الحدود، وصار تهريب التكنولوجيا الجديدة متاحاً لسهولة تهريب أساليب إنتاجها، وأيضاً لسهولة تدريب كوادر بشرية عن بُعد، أي أن ما كان يتطلب عمليات تهريب ملموسة واسعة النطاق، وكان معرّضاً للانكشاف من قبل أجهزة مخابرات قوية، صار متاحاً "افتراضياً" بنسبة كبيرة، وباتت عملية ملاحقته استخباراتياً شبه مستحيلة فوق أنها مرتفعة التكاليف. 

يمكن الإشارة إلى الطائرات المسيَّرة كسلاح مُستحدث دخل بقوة في حروب الحكومات والتنظيمات أيضاً، وهو مجرّد مثال على تكنولوجيا تؤرّق أساليب الدفاع التقليدية، بسبب انخفاض تكاليف صناعة المسيّرات بالمقارنة مع تكاليف إنتاج وتشغيل أنظمة الدفاع التي تتصدى لها. لكن مثال المسيّرات لا يستوفي إلا قسطاً ضئيلاً من التطورات المرتقبة كنتيجة لاستخدامات الذكاء الاصطناعي في مضمار التسلح، وفي تعميم تكنولوجيا ذات استخدامات متعددة منها الاستخدام الاستخباراتي الذي لن يقتصر على الحكومات التقليدية، ليكون استثمار الذكاء الاصطناعي في وضع الخطط الحربية واحتمالاتها سهلاً جداً عطفاً على ما سبق.

ظهرت في السنوات الأخيرة أصوات متفرقة حذّرت من تسرّب تكنولوجيا الأسلحة والمتفجرات المتطورة والذكية إلى تنظيمات إرهابية، أو إلى أية تنظيمات أخرى قد تلجأ إلى العنف من دون احتساب العواقب التي يُفترض أن الحكومات التقليدية تضعها في حسبانها عندما تتخذ قرارات الحرب والسلم. اتسمت تلك التحذيرات عموماً بحساسية عالية إزاء "الإرهاب"، مع حساسية منعدمة إزاء مسبباته، لتصبّ في المنحى التقليدي المعتاد، والذي يتلخّص بالبحث عن سبل منع التنظيمات من الحصول على التكنولوجيا الجديدة.

في عملية "طوفان الأقصى" طغى على ما عداه الاهتمامُ بتوغل المقاتلين في المستوطنات وأسْرهم عدداً كبيراً من الرهائن، فوق العدد المهول غير المسبوق من القتلى الإسرائيليين في يوم واحد. حجبتْ وقائع التوغل ما قبلها من استعدادات، على صعيد إنتاج القذائف والمسيّرات وسواهما، وكذلك التقنيات الاستخباراتية. لكن صور هؤلاء المقاتلين تشير بدورها إلى عامل شديد الأهمية، يكمل ما سبق على صعيد كسر احتكار تكنولوجيا السلاح، فوجود ألوف أو عشرات ألوف الفلسطينيين المستعدين للقتال وللتضحية بأرواحهم ليس تفصيلاً "شاعرياً". ووجودهم غير مرتبط بالراية السياسية التي يرفعونها الآن، بمعنى أن القضاء على حماس أو الجهاد أو فتح سيؤدي إلى خلق عناوين بديلة، مع ألوف المستعدين للقتال طالما الأفق السياسي "المنصف حقاً" مغلق أمام القضية الفلسطينية.        

لقد كتب جدعون ليفي في جريدة هآرتس، غداة إطلاق عملية "طوفان الأقصى": "وراء كل ما يجري توجد وقاحة إسرائيلية؛ فنحن اعتقدنا أنه مسموح لنا فعل كل شيء، وأننا لن ندفع أي ثمن أو عقاب". ثم أتى على ذكر الانتهاكات الإسرائيلية بدءاً من تغطية المستوطنين الذين ينفّذون المذابح ويقتلون المدنيين الأبرياء، مروراً بتعمّد انتهاك حرمة المسجد الأقصى لاستفزاز الفلسطينيين، وصولاً إلى الطرد من البيوت وعمليات التطهير العرقي. وفي ما يخص قطاع غزة أكثر من غيره، والحصار الدائم عليه، كتب ليفي العبارة التي صارت شائعة: "لا يمكن سجن مليوني شخص إلى الأبد من دون دفع ثمن باهظ لقاء ذلك".

لكن جدعون ليفي يمثّل أقلية بين النخب الإسرائيلية، وتشير نتائج الانتخابات بلا لبس إلى تقدّم اليمين بكافة أطيافه منذ بداية هذا القرن، لتجمع الحكومة الحالية تحالفاً يضم الأكثر تطرفاً ضمن اليمين "العلماني" إلى جانب الأحزاب الدينية المتطرفة، مع اتفاق جميع أطرافها على خطاب هو الأكثر تطرفاً وشعبوية. لذا ستشهد الأيام القليلة المقبلة استخداماً إسرائيلياً مفرطاً للقوة بعد إعلان حالة الحرب واستدعاء مئات ألوف جنود الاحتياط، وردّ الفعل هذا سيلقى على الأقل تفهّم المعارضة المصنَّفة في الوسط تحت شعار أولوية الوحدة الوطنية.

لا شك في قدرة إسرائيل على الانتقام وإيقاع أشدّ الأذى بالفلسطينيين؛ لقد فعلت ذلك مراراً من قبل، ومما تقوله عملية طوفان الأقصى أن العنف الإسرائيلي لا يردع أصحاب القضية رغم أرجحيته بميزان الربح والخسارة. ربما هذا ما يتعين على الإسرائيليين الانتباه إليه جيداً عندما تنتهي المعركة وترتفع الأصوات المطالبة بالمحاسبة، لأن استمرار الاكتفاء بمحاسبة الأمني من دون النهج السياسي هو بمثابة وصفة مجرَّبة لاستجلاب "طوفان الأقصى-2". بموجب الوصفة ذاتها، لن يخالف الفلسطينيون قاعدة مخيفة يكبر حظها من الانتشار مع كسر تكنولوجيا السلاح، مفادها تحقيق العدالة المستحيلة سلْماً بتعميم وسائل استخدام العنف!


المصدر: المدن

الوسوم :