أحمد عيشة
انكفأت سياسة الولايات المتحدة في سوريا إلى مكافحة الإرهاب المتمثل بتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، ومراقبة باقي المناطق مع ممارسة الضغوط على بعض الأطراف فيها، داعية إلى تطبيق القرار الدولي (2254)، من دون إكسابه أي قوة، شأنها في ذلك شأن كثير من الدول الصغيرة والكبيرة، وكذلك حال معظم السوريين، هذا الأمر الذي جعل كثيرين ينظرون إلى سياستها تجاه سوريا على أنها تراجع عن المنطقة، وتفويض لروسيا بلعب دور أكبر في سوريا، خاصة بعد صفقة الكيمياوي، واللجوء لخلق مناطق نفوذ حيث كانت منطقة الجزيرة السورية أو شرق وشمال الفرات من حصتها، معتمدة على القوة المسيطرة، قوات سوريا الديمقراطية، التي يتحكم فيها فعلياً كوادر حزب العمال الكردستاني.
قامت علاقة الولايات المتحدة مع قوات الاتحاد الديمقراطي (PYD) على أساس سياسي أولاً، وهو العنصر المهم المتمثل في مكافحة الإرهاب المتمثل بداعش أو التنظيمات الجهادية الإسلامية الأخرى، والاكتفاء بالمناورات مع نظام الأسد، وهو الموقف الذي مارسته منذ بداية الثورة قوات ذلك الحزب. ومعروف عملية تسليم المناطق بين النظام وقوات الاتحاد الديمقراطي، التي جرت في بداية الثورة سواء في عفرين أم القامشلي، وكأنها "عهدة" منقولة لأجل مسمى. هذا التسليم استفاد الحزب منه، وأسس هياكل لإدارة يطلق عليها مدنية، لكن جوهرها "أمنية"، تقوم على قمع الصوت المخالف، وخاصة إن كان ضد النظام الأسدي، من دون تفريق بين كردي وعربي، مقتدية بذلك بأسوأ نماذج الحكم الشمولي في العالم.
ولا شك أن التنظيم العسكري الحديدي، الذي يعود في أصوله إلى بنية التنظيمات اللينينية، خاصة أن الحزب يدعي انتماءه إلى الماركسية وتعديلاتها الأوجلانية، كان مزية مفضلة لدى الولايات المتحدة، باعتماده كقوات برية مرتزقة يمكن من خلالها أن تمارس أبشع الانتهاكات، مع إمكانية التهرب من مسؤوليتها القانونية فيما لو رفعت قضايا ضد هذه الممارسات يوماً ما، وهي ليست المرة الأولى التي تعتمد فيها الولايات المتحدة على قوات من "المتعاقدين" أو المرتزقة، فقد كانت كبيرة جداً في العراق وأفغانستان. وبالمقابل، وجدت تلك القوات مصلحة لها في أن تكون تحت حماية القوة الكبرى في العالم توفر لها حماية لـ "حدودها"، ناهيك عن الغطاء السياسي الذي توفره لها، والترويج الإعلامي في الغرب كقوة ديمقراطية تحررية تناصر قضايا تحرر المرأة.
لم تكتف قوات سوريا الديمقراطية بعلاقتها مع الولايات المتحدة، وإنما نسجت، وإن بدرجة أقل، علاقة مع روسيا، داعمة النظام الأسدي الأساسية، حيث تشاركت معها الوجود في بعض المناطق، مثل تل رفعت وأطراف منبج والقامشلي، حيث الجذر السياسي في هذه العلاقة هو الموقف من النظام الأسدي والتنسيق معه عند الضرورة. والموقف المهم لدى موسكو، الذي صرح عنه لافروف، وزير الخارجية الروسي، منذ بداية الثورة السورية، بأن بلاده لن تسمح أن يحكم المسلمون السنّة سوريا، وهو موقف ينسجم تماماً مع تطلعات حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي، تجاه مستقبل سوريا لأكثر من سبب، منها العرقي والطائفي، لكون صاحب القرار لدى الحزب المذكور، جهات فاعلة إيرانية متمركزة في قنديل.
وكذلك إيران، بتوجهها المعروف الإمبراطوري والطائفي، فهي ليست بعيدة عن العلاقة مع هذا الحزب، لأسباب عديدة، أولها أن الحزب أوقف عمليات فرعه في إيران، وثانيها عداؤه للحزب الديمقراطي (برزاني) في إقليم كردستان، وثالثها حربه مع تركيا، ورابعها الموقف من النظام، وأخيراً، الانتماء المذهبي المشترك لكثير من قيادات العمال الكردستاني. وقد ظهرت هذه العلاقة من خلال العلاقات العسكرية والسياسية مع قوات الحشد الشعبي في العراق -وهي منتج إيراني بحت- في منطقة سنجار، والدعم اللوجستي والمالي الذي يتلقونه، وهو ما ظهر مؤخراً في الأحداث الأخيرة بين (قسد) وأهالي المنطقة في دير الزور.
كان اعتقال أحمد الخبيل، قائد المجلس العسكري لدير الزور، وهو أحد الصيغ التي تعتمدها قسد في السيطرة، الشرارة التي أطلقت تحرك أبناء المنطقة ضد سيطرة قسد واحتكارها السلطة والموارد في المنطقة، إضافة للعنصر المهم، وهو التمييز الحاد ضدهم كعرب، ناهيك عن اعتبارهم "متخلفين"، لكونهم أبناء قبائل وعشائر بعيدون عن التنظيمات "المتحضرة" التي تشارك بقياداتها النساء، وغير ذلك من التهم الجائرة التي انعكست بمجملها بتهميش أبناء المنطقة، بل "تطفيشهم" خارجها، نتيجة الممارسات "الديمقراطية" جداً بحقهم. بالطبع كان لوجود القوى العديدة في المنطقة تداخلاتها واستثماراتها في ذلك التحرك النابع أساساً من القهر والتهميش تجاه المنطقة وأبنائها.
لا تلغي كل هذه التناقضات بين تلك القوى، وجود توافقات وقنوات تواصل، فالعلاقات الدولية تقوم على جناحين: التصارع والتوافق
يمكن اعتبار منطقة الجزيرة السورية، تبعاً للقوى الموجودة فيها وتشابك وتعارض مصالحها فيها، منطقة صراع دولي بوسائل غير مباشرة، فهي تشكل ربع مساحة سوريا، وتحتوي على معظم ثرواتها من المياه والزراعة والنفط والغاز، ما يجعل منها منطقة صراع على الموارد، خاصة بالنسبة للنظام وروسيا، إضافة لذلك، فهي تشكل منطقة استراتيجية للولايات المتحدة ضمن تصوراتها للعلاقة مع تركيا وإيران، أما إيران فهي ترى فيها ضماناً لممرها الاستراتيجي نحو دمشق وبيروت. لا تلغي كل هذه التناقضات بين تلك القوى، وجود توافقات وقنوات تواصل، فالعلاقات الدولية تقوم على جناحين: التصارع والتوافق.
تتوافق تلك القوى المتصارعة، وخاصة الولايات المتحدة، الراعي الأساسي لقوات (PYD) وروسيا في تلك المنطقة، والذي تجلى مؤخراً في سكوت الولايات المتحدة وتغطيتها لما جرى مؤخراً في ريف دير الزور الشرقي، وقصف روسيا لأطراف منبج، على دعم نموذج سلطات الأقليات كنظام حكم في سوريا، ومنع قيام نظام ديمقراطي يعبّر عن هوية سكانها، وهو جوهر موقف القوى الكبرى بوصفها قوى امبراطورية لا تريد من المنطقة سوى تحويلها إلى جزر يحكمها قطع من "الفسيفساء" التي يدعون أنها تكّون سوريا، وهو ما يذكر ويؤكد تصور تلك القوى المنطقة منذ تأسيس تلك الكيانات قبل قرن من اليوم.
قد يفسّر ما جرى في ريف دير الزور الشرقي، من تقاطع القوى الكبرى في المواقف أكثر من تناقضها، الموقف الإمبراطوري للقوى الكبرى الذي قد يحوّل العلاقة بين الولايات المتحدة وقوات سوريا الديمقراطية من علاقة مع عشيقة إلى علاقة زواج متعة تباركه قوى أخرى، وتبقى نضالات السوريين عموماً وأبناء المنطقة خصوصاً -وسط كل هذه الصراعات- هي الأساس، وهي الكفيلة بتحقيق حلم السوريين، الحرية والكرامة.
المصدر: تلفزيون سوريا