صحافة

عودة الشعب إلى الميادين.. خياران للسوريين "تدجين" أو "تغيير"

الأربعاء, 6 سبتمبر - 2023
austin_tice

تواصل معنا

+961 3 733 933

friendsofaustintice@gmail.com

طالب الدغيم


لم تنفع سياسات النظام السوري "القمعية" و"التسلطية" في إخضاع السوريين منذ انطلاق ثورة آذار/ مارس 2011، على الرغم من استخدامه شتى أنواع القتل والتدمير والتهجير، بالإضافة للاصطفاف الروسي والإيراني العسكري المباشر بجانبه، وتغاضي الحكومات العربية والمجتمع الدولي عن سياساته الإجرامية المروعة، فعادَ السوريون الأحرار بعد أكثر من عقدٍ إلى الميادين السّلمية (أغسطس/ سبتمبر 2023)، يتعاهدون على إسقاطه، واسترداد إرثهم التاريخي الذي اغتصبه نظام الأسد وزبانيته عقوداً طويلةً، ولكن هذه المرة لم تعد الانتفاضة الشعبية من ميادين درعا، وامتدت إلى حمص وإدلب ودير الزور وحماة وريف دمشق وغيرها، بل أوقد شُعلتها ناشطون سوريون في مدن الساحل السوري، وبلغت ذروتها في جميع مناطق السويداء، ودرعا، وبعض مناطق مدينة حلب.

قَدَّرَ موقع نومبيو المتخصص بقياس تكاليف العيش ومستوى الحياة، بأن الفرد في تلك المناطق "الجغرافيا المفيدة"، يحتاج لأكثر من 4 دولارات في اليوم للعيش بكرامة، بمعنى أن الشخص يحتاج أكثر من 130 دولارًا شهرياً، وأن عائلة مكونة من خمسة أفراد تحتاج إلى 650 دولارًا في الشهر الواحد، في حين لا يتجاوز متوسط دخل الفرد بمناطق الأسد 15 دولارًا شهرياً، وبالتالي؛ يصعب تصور أو شرح كيف تستطيع مثل هذه الأسر الاستمرار بالحياة. فالنظام لا يملك موارد لردم هذه الهوة في مداخيل العوائل السورية وحاجتها للإنفاق، فهو لا يملك أي موارد جديدة سوى رفع الأسعار، أيّ يسترجع بيده الشمال ما منحه لهم بيده اليمين، ثم يُضاف إليها انهيار خدمات الصحة والتعليم والنقل، وانتشار الفساد، والجريمة، وهذا ما جعل نوعية الحياة في المدن الخاضعة للأسد في أسفل سلّم تقييم نوعية الحياة في مدن العالم اليوم.

بات هَمُّ المواطن السوري في مناطق سيطرة الأسد "الجغرافيا المفيدة حسب توصيفه" تحصيل قوت يومه، وتحول نشاط كثير من الإعلاميين "الموالين" في مناطق الأسد إلى تصوير تقارير يومية حول كلفة وجبة العائلة، والتي لا تزيد على راتب شهرين لموظف واحد، وتكررت مشاهد إلقاء الأطفال الجدد أمام المساجد أو دور الرعاية، وفوق صدورهم ورقة مكتوبة من الأب أو الأم: "... هذا ابن حلال، ولكن ما عنا أكل نطعميه"، وعمَّت حالات الخطف، وابتزاز أهالي المخطوفين بالمال أو قتلهم، وارتفعت معدلات الدعارة في المناطق التابعة للأسد جهاراً نهاراً، وذلك مقابل تضخم أرصدة الأسد والعائلات المتحالفة معه من آل الأخرس وشاليش والفوز وغيرهم، وكثرت مشاهد استعراض عضلات أبناء المسؤولين ورجال الأعمال بشهاداتهم المزورة، وسياراتهم الفارهة، وسفرياتهم، وحياتهم المترفة، إذ تجاوزت تكاليف بعض حفلاتهم وأسفارهم في بعض الأحيان مبالغ كفيلة بإطعام أحياء سكنية كاملة في مدن دمشق أو حلب أو اللاذقية أو السويداء أو طرطوس.

ولم تأت انتفاضة السويداء (أغسطس 2023) من فراغ، وهي التي يقطنها غالبية من الموحدين الدروز، إنما هي تراكم لمواقفها السابقة ضد الاستبداد والفساد، التي بدأت مع بداية الانتفاضة السورية عام 2011، إذ حاول الدروز في السويداء، وجبل السماق في إدلب، وفي محافظات سوريا الأخرى النأي بأنفسهم عن الوقوف إلى جانب النظام، حيث عبّروا عن ذلك برفض إرسال شبابهم إلى الخدمة العسكرية "كي لا يُسهموا في قتل أشقائهم السوريين"، ولكن بالمقابل لم يبدوا تأييدًا للمعارضة ضد الأسد إلا في إدلب، غير أن بعض قواها في السويداء كان له موقف أكثر جذرية بمعاداة النظام، وخاصة "ثوار الكرامة" بقيادة الشيخ البلعوس، الذي قتله النظام السوري في 4 أيلول/ سبتمبر 2015، بل إن فصيلًا مسلحًا قد تشكل من أبناء السويداء بقيادة الملازم أول خلدون زين الدين، الذي لم يحصل على ذات الدعم الذي حصلت عليه الفصائل الأخرى، ثم قُتل في إحدى المعارك مع قوات النظام. وكانت عودة انتفاضة أهالي السويداء في تموز/ يوليو 2022 ضد العصابات المحلية المتورطة في أعمال الخطف، والسطو، والاتجار في المخدرات مع ميليشيات إيران في سوريا.

اتخذت انتفاضة السويداء شكل حراك شعبي عارم ضد الجوع والإذلال، وأكدت على حلولٍ سياسيةٍ لإنهاء الوضع القائم وفق القرار 2254، بل وإسقاط نظام الأسد، ورَفَضَ الحراك الشعبي التفاوض مع مندوبي الأسد، وهاجم المتظاهرون مقار حزب البعث والمفارز الأمنية، ومزَّقوا صور الأسد الأب والابن، زد على ذلك انضمام المؤسسة الدينية الدرزية "مشايخ العقل" للانتفاضة، وعلى رأسهم الرئيس الروحي لطائفة الموحدين الدروز "الشيخ حكمت الهجري"، وقد وجه رسالة واضحة في المظاهرات الأخيرة بقوله: "نحن نريد العزة والكرامة"، ورفع المحتجون أعلامًا خاصة بالطائفة الدرزية بشكل رئيس بجانب علم الثورة السورية. وهو ما جعل الكاتب الأميركي كريس فيتز جيرالد ينشر تحليلاً في موقع مودرن دبلوماسي الأميركي Modern Diplomacy، وقال: "دعمت هذه المجتمعات الأسد، وكوفئت بالفساد، والاقتصاد المعوق، والأزمة الإنسانية المستمرة".

وقد انكشف الأمر لدى الكثير من أبناء الساحل السوري، وخاب أملهم في تحسن الوضع المعيشي والأمني، بعد أن وضعت الحرب السورية أوزارها. فالغالبية الساحقة من الموالين للنظام هناك تسد جوعها من راتب الوظيفة "الحكومية" الذي لا يكفي مصاريف تحصيله (9 دولارات أميركية)، ومن زراعة الأراضي التي لا تصلها مياه الريّ في الكثير من المناطق. زد على ذلك، غلاء أسعار السماد بعد سيطرة الروس على أحد أهم معامل تصنيعه، والمأساة اليومية في تأمين البنزين لدراجاتهم النارية التي يعتمدون عليها في التنقل، والوصول إلى أراضيهم الجبلية الوعرة. وأما تأمين الغاز المنزلي والديزل للتدفئة، فيما يعوم المقربين من الأسد على بحارٍ من النفط والغاز، فحديث طويل، ويحتاج لمقالٍ آخر. وباتت الحاضنة اليوم غاضبة بشدة، وتبدلت لديها المفاهيم، وبات لديهم شعور بكونهم وقوداً ليس إلا، بالإضافة إلى تأكدهم من تخلّي السلطة عنهم عبر إفقارهم وإذلالهم منكرةً عليهم كلّ جراحهم ومعاناتهم في سبيل وجودها، فتعالت الأصوات في نقد النظام حتى وصلت رأس النظام الأسد ذاته.

هكذا، قلّصت انتفاضة السويداء الأخيرة حالة الخوف من الآخر السوري، والتي عمل عليها نظام الأسد زمناً طويلاً، ووسعها على مدى سنوات الحرب السورية بين الأكثرية ومجموعة الأقليات؛ دروز وإسماعيليين ومسيحيين وعلويين وشيعة، فقد بدأت مشاعر العداء بين المكونات السورية بالتراجع منذ نهاية الحرب الطاحنة بين الأطراف عام 2018، عندما أصبحت الأحوال المعيشية لجميع السوريين تتقارب في مستوياتها المتدنية، عدا قلة من أمراء الحرب وأثريائها على الجبهتين، وبات الجميع يشعرون بأن الحرب السورية كانت وبالًا على السوريين، وأصبح الجميع مشغولين بالهموم والمعاناة ذاتها، والبحث عن الأمان لا أكثر.  

أدرك السوريون على اختلاف انتماءاتهم ومناطقهم وإثنياتهم، بأن نظام الأسد هو المعضلة، وبأن الحل هو حل بين السوريين للخلاص من هذا الحال المتردي. ولن تنجح محاولات نظام الأسد وحلفائه والمتواطئين معه في تهدئة الأوضاع بعد اليوم، حتى لو استطاع هذه المرة، فإن القصة لن تنتهي هنا، فالنظام لم يعد قادراً على تلبية مطالب الناس "المخنوقة"، وسيظل الوضع قابلًا للانفجار. ويبدو بأن أساس الحل في تأطيرٍ واعٍ لــ "الاستعصاء الشعبي السوري الشامل" في سبيل الوصول لحلٍ جذري يؤسس واقعاً سياسياً وقانونياً واقتصادياً مختلفاً، ينهي ألم السوريين، ويبني دولة "فدرالية" أو "موحدة" يعيش فيها الجميع بدون عصابة الأسد.


المصدر: تلفزيون سوريا